ظاهرة الانكفاء نحو العصب المذهبي او العنف والتكفير، لدى حركات الاسلام السياسي عموما، هي نتيجة علاقتها المأزومة مع الزمن والعصر. فأدلجة الاسلام وتحميله ما لا يحتمل عبّرت عنها سلّة من الشعارات من قبيل "الاسلام هو الحل"، وان "الاسلام نظرية متكاملة للدولة والمجتمع" وأنّ "فيه جواب على أيّ سؤال"، وأنّ "الاسلام ليس ديناً فحسب بل دين ودولة".

كلّ هذه العناوين برزت في مرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية، اي خلال محاولات ردّ البعض على ما يهدّد الهويّة الاسلامية مع انهيار الكيان الاسلامي الجامع. ذلك أنّه قبل ذلك كان هناك فصل بين الحيّز الديني والحيّز السياسي. اذ لم يكن السلطان فقيها ولم يولِ الفقهاء امر السلطة اهتماماً غير الدعوة الى طاعته والدعاء له بالهداية من الله اذا ظلم. وفي العموم لم يقدّم الفقهاء الاسلام باعتباره ايديولوجيا، او ورؤية متكاملة للمجتمع والسلطة في المراحل التاريخية التي سبقت مرحلة انهيار السلطنة.

اذن الدعوة لإقامة الدولة الاسلامية هي دعوة حديثة برزت في القرن الماضي، وعبّرت عنها النظرة الايديولوجية الى الاسلام، وان كان الشيخ حسن البنّا، مؤسّس جماعة "الاخوان المسلمين"، قد اتجه الى وركّز على النزعة التربوية وحماية الهوية الاسلامية في مواجهة الثقافة الغربية وافكارها الوافدة والمنتصرة على مصر. وبلورة الرؤية الايديولوجية للاسلام جاءت لاحقا، لا سيما مع سيد قطب. هو الذي امتدّ تاثيره إلى مختلف حركات الاسلام السياسي السنية والشيعية.

الحركات الاسلامية إما استلمت السلطة وفشلت في تقديم ما بشّرت المجتمع به او منخرطة في تشكيل نموذج انتحاري لا افق له في هذا العالم. وفي الحالين فإنّ النموذجين يعبّران عن علاقة مأزومة مع العصر والزمن. وهذه العلاقة المأزومة تتمثل في انّ هذه الحركات عملت على بناء سلطة وليس بناء دولة، وغالبا ما كانت هذه المشاريع الاسلامية عبارة عن طفيليات تنشأ على هامش الدول، وتشكّل مجالها الخاصّ داخل المجال العام للدولة والمجتمع.

هذا ما كشفته تجربة حكم حركة "الإخوان المسلمين" الأخيرة في مصر، التي انهارت سريعاً بفعل انهماكها بحماية سلطتها وتعزيزها. وهذا ما نلاحظه في تشكّل سلطة موازية وآسرة لآلية عمل مؤسّسات الدولة، كما هو الحال في ايران مثلا. واذا ذهبنا نحو مؤشرات التنمية او الحريات لاكتشفنا ان ليس لديها ما تقدّمه الى شعبها، بل نلاحظ فقط القلق من نتائج هبوط سعر النفط على دولة مثل ايران. نعلم كم انّ مؤشّرات التنمية تعتمد على بيع النفط ولا شيء سواه يمكن ان يُعتدّ به على هذا الصعيد.

قبل يومين حذّر الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من موجة إلحاد في بعض الدول العربية، وممّا قاله: "...في أكثر من بلد عربي، حتى في داخل السعودية، في مصر، في أماكن أخرى، هناك بدايات إلحاد، وهناك حديث عن موجة إلحاد، لماذا؟ لأنه سوف تصل الأمور إلى التشكيك بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هو نبي من الله أو ليس نبياً من الله، وصولاً إلى التشكيك بالله ووجوده أساساً. هذا بالتعبير العامي البسيط عندما نقول: سيكفّرون الناس بالإسلام". وذلك بسبب ما وصفه نصرالله من ظاهرة الربط امام الناس بين القتل والذبح و"الله اكبر".

هذا التحذير من الالحاد هو سلاح ذو حدّين. الاول قد يكون - وهذا المرجّح - انّ في كلام السيد نصرالله دعوة الى الاسلاميين عموما كي يراجعوا فتاواهم وسياساتهم وسلوكهم الذي بات ينعكس سلبا على الدين نفسه. لكن الحدّ الآخر هو أن يكون هذا التحذير نوعا من الالتفاف على مدّ آخر ينمو في المجتمعات العربية والاسلامية، مغاير للاسلام السياسي وللتجارب الدينية في السلطة، وعلى قاعدة أنّ كلّ من هو خارج الدين منحرف وملحد.

مشكلة الخطاب الديني الذي تبّنته حركات الاسلام السياسي، انّه لا تعنيه قراءة الظواهر الثقافية وتنوّعها وتعدّدها. ولا يجد نفسه معنيا بتحليل اسبابها الاجتماعية، فهو دائما يريح نفسه من هذا العبء بتقسيم العالم الى فسطاطين (ايمان وكفر) وفي الوقت نفسه يعمّم خطاباً دينياً منفّراً، لا يقدّم مشروع حياة، بل ثقافة مأزومة ومتوترة ودائمة الريبة من الآخر.

هذه الحركات، على اختلافها بين السنّة والشيعة، تنتشي بخطاب الغلو وتغذّي كلّ ما يشدّ العصب من روايات وتفسيرات تشدّ العصب المذهبي، حين تقف عاجزة عن مواجهة التحديات الحضارية، وشروط الحياة الطبيعية. فيما هي نفسها لا تجد غضاضة في نعت ايّ حركة تنوير بـ"الكفر" و"الإلحاد". مشكلة هذه السلطة الدينية الممثّلة برجل الدين اليوم، أنّه لا يعرف أين يقف ويرى أنّه مرجعية لكلّ شيء.