من قرأ خطاب البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي في أديلاند في أستراليا أدرك توًّا أنّ توظيفه السياسيّ ليس ضيّق الأفق، محجّمًا بزاوية واحدة، بل هو متحرّر من زاوية متصادمة، فيهدف بديناميّة التحرّر إلى إعادة ترميم النظام السياسيّ بهالته الميثاقيّة ومسالكه الدستوريّة، حتّى لا يقع اللبنانيون في شرك المثالثة، المبطلة لجوهر المناصفة الفعليّة والتي قام عليها لبنان بمؤسساته السياسيّة والأمنيّة والإداريّة...

لكنّه وقع في فخّ رفضه للمثالثة من دون تحديد ولا تحليل لمعناها وخصوصيّتها وارتباطها بأهداف المكونات الأخرى وتخصيب تلك الأهداف بالنتائج. فقد تجلّى كلام البطريرك بحدّته مدويًّا، بعد نتائج معركة طرابلس حيث ظهر الجيش فيها ظافرًا، فبدا كلامه متلازمًا مع النتائج والتي لا تزال تحت مجهر التقييم من متختلف الأطياف السياسيّة بعد هروب أمراء الحروب، وتواريهم خلف حجب لا بدّ وأن تزول. ولكنّه، بدوره، مستمَدّ من تلازم مسألة التمديد بالفراغ في سدّة الرئاسة، وتخوّفه أن يقود ذلك إلى مؤتمر تأسيسيّ للنظام السياسيّ في لبنان فيكون الهدف منه الخروج من المناصفة إلى تحقيق المثالثة.

قد يبدو كلام الراعي في هذا المجال مستغربًا، ذلك أنّ أحدًا من الممثّلين للوجدان الشيعيّ بأكثريّته الساحقة، لم يتبنَّ هذا المبدأ، بل على العكس تمامًا، فإنّ "حزب الله" بأدبيّاته شدّد ويشدّد دومًا، وبلسان نائب أمينه العام الشيخ ​نعيم قاسم​ وسواه، على أنّ لبنان لا يقوم إلاّ على المناصفة وليس على المثالثة. وقد شرحت شخصيّة سياسيّة وازنة بأنّ "حزب الله" لا يحتاج على الإطلاق لتوكيد المثالثة وتوطيدها، فهو لا يحتاجها على الإطلاق لكونه متجذّرًا بقوّة في الخطاب السياسيّ المقاوم، ويملك أوراق الحلّ والربط في المدى السياسيّ بتجلياته وتداعياته... وذهبت تلك الشخصيّة إلى الاعتبار بأنّ المثالثة تضعف المكوّن الشيعيّ، مثلما تضعف المكوّن المسيحيّ والآخر الدرزي. فهي لا تنتمي إلى الديمغرافيا بالتحديد والتوظيف، بقدر ما تنتمي إلى المعطى السياسيّ الداخليّ المرتبط بالمنطقة ككلّ. وبهذا فإن تطبيق المثالثة يقوّي المكوّن السنيّ السياسيّ بامتداده العربيّ والخليجيّ وبالمعايير الماليّة التي يمتلكها على حساب الشيعة والمسيحيين والدروز.."

والمنحى الذي أخذه كلام البطريرك عن المثالثة انطلق من تخوّف من أن تكون المناصفة هي النتيجة التي يهدف المؤتمر التأسيسيّ للنظام السياسيّ إلى إبطالها وإبدالها بالمثالثة. ويتماهى الكلام عينه مع الأدبيات السياسيّة الظاهرة عند فريق الرابع عشر من آذار الرافض لمبدأ المثالثة، وهو في حقيقته غير مطروح في النقاش السياسيّ الجديّ بقدر ما وضع للتهويل في إطار تعبويّ واضح. الأساس في الخطاب السياسيّ اللبنانيّ، هو بالانكباب على إعادة الروح إلى اتفاق تمّ تمزيقه غير مرّة، وقد احتسب مهانًا مرذولاً، لا يملك خصوصيّة التكوين بقدر ما هو تسوية تمت بين أميركا وسوريا والسعوديّة، نقلت لبنان من فوضى دمويّة إلى إمساك لم يؤمّن التماسك الوطنيّ خلال الحقبة السوريّة بل الفوضى المتلاشية. فالتكوين بمعناه العميق وتحديده الحقيقيّ يبيح التماسك برؤية جديدة، فيما التسوية لا تتوغّل في جوهر النظام إذا شابه عطب، فتهمل العطب ليتحوّل إلى اهتراء كامل للبنية المؤسساتية للنظام والكيان، تحت ستار الإمساك الذي أمّن هدوءًا هشًّا لم يخلُ من تمرّد من هنا وتظاهرة من هناك بسبب سوء تطبيق الدستور.

أمام هذا الواقع، سأل مرجع سياسيّ في معرض قراءته للاءات السيد البطريرك، لماذا يتخوّف من مؤتمر تأسيسيّ إذا ما رام باتجاه إعادة الانتظام إلى النسق الميثاقيّ وديمومته؟ ألا يشي الفراغ المرتبط بعناصر صداميّة ما بين السعوديّة وإيران، بأن نظامنا بات في حقيقته أجوف بسبب الثغرات والفجوات التي أدنته من الخلل لتحتم معطوبيّته، وهو بدوره استمداد للحقبة السوريّة-السعوديّة التي انفجرت بلبنان بهيكله وجوهره؟ لماذا يلقي الراعي المسؤوليّة على الآخرين ولا يلوم القيادات المسيحيّة بأسمائها، التي تصرّ على الإخلال بالحقيقة الميثاقيّة المرتكزة على جوهر الوجود المسيحيّ الممزّق؟ لماذا يقبل بأن يأتي رئيس للجمهوريّة توافقيًّا في حين أن مذكرة بكركي دعت إلى انتخاب رئيس قويّ يمثّل الوجدان المسيحيّ، وقد خبرنا بأنّ الحيّز التمثيليّ يؤهّله ليكون وفاقيًّا يتعاطى بالإزاء مع الطوائف الكبرى استنادًا إلى جوهر الميثاق الوطنيّ؟ وبهذا المعنى، هل يقبل برئيس يرعى ولا يحكم؟ وبالتالي، ألا يدرك صاحب الغبطة بأنّ الثغرات في الطائف المتعلّقة بصلاحيات الرئيس يجب أن تتيح لنا بإعادة القراءة بالاتفاق بعض الشيء من منطلق تقييميّ كما حصل في المؤتمر الذي دعا إليه "المركز المدنيّ للمبادرة الوطنيّة" ليصار بعد ذلك إلى التصحيح والتصويب؟

هذا السياق، يقود إلى استنتاج بأن لبنان كيان مؤسّس من تسويات كتبها الآخرون بمصالحهم ودمائنا، وهو تاليًا وطن لجوء للفلسطينييّن والسورييّن، ولم يعد للبنانيين فيه دور في إعادة الاعتبار للوجود. إن حاجة لبنان وبهذا الفراغ المستحكم به، وباندراجه في عواصف المنطقة يحتاج لمؤتمر وطنيّ تكوينيّ أو تجديديّ، يستند على اتفاق، للأسف الشديد، استهلك قولاً، وأهمل فعلاً، ويجب أن يكون قابلًا للتعديل من منطلق إعادة الاعتبار لمنطق المناصفة الفعليّة التي تبقى حاجة مسيحيّة شيعيّة ودرزيّة، في حين أن المثالثة حاجة سنيّة حصريّة، ترتبط بحسابات متعدّدة، جوهرها سقوط النظام السوريّ، وانتفاء الحاجة للبنان أوّلا. بهذا المعنى تصير المثالثة تحجيمًا للعنصر الشيعيّ والدرزي والمسيحيّ، وتوطيدًا لأحاديّة مبتغاة عند السنة بالمعنى السياسيّ الدقيق للكلام.