في هذا الزمان الممتدّ بنا نحو الميلاد، وفي عقم الأزمات وارتجاجها وعمقها، لا يمكن الفرار من استكمال الإضاءة على المسألة المسيحيّة، وعلى الوجود المسيحيّ إستكمالاً للمقال الأخير في هذا الموقع. هي مسألة دقيقة ومعقّدة للغاية، وقد حاول كثيرون من الداخل والخارج الإضاءة عليها، ومن أهمهم الكاتب الفرنسيّ المستشرق جان بيار فالون Jean Pierre Valognes في مؤلّفه الشهير حياة وموت المسيحيين العرب بأصولهم إلى أيامنا هذه، Vie et mort des chrétiens d’orient des origines à nos jours، وقد شاء صاحبه أن يضيء على واقع المسيحيين في هذا المدى مثلما قام الأب جان كوربون في مؤلفه كنيسة العرب، لسبب جوهريّ، وهو أنّ المشرق بعمقه الجغرافي لصيق كيانيًّا ووجوديًّا بالمسيح وامتدادًا بالمسيحيّة في انبلاجها من تلك الجذور.

لم يلغ اللصوق المشرقيّ الكيانيّ والوجوديّ بالمسيحيّة رحابة التنوّع، ذلك أنّ الفكر المسيحيّ مهجوس به، وممتدّ إلى كلّ آخر، لكون هذا الآخر "مودود الله" بالإحساس الطبيعيّ للمسيحيين المشارقة. غير أنّ اللصوق بكلّ الرؤى والمفردات المتنوّعة الصفات والمعايير، مهدّد من عداوة اليهود وبخاصّة دولة إسرائيل للمسيحيّة والمسيحيين. هي في المطلق عداوة عقائديّة لدودة بكلّ ما للكلمة من معنى، أساسها صلب المسيح. وهي لم تتوقّف على الإطلاق، بل ازدادت ترسّخًا واتساعًا واتساقًا، برؤى سياسيّة واقتصاديّة ودينيّة، ليس لها هدف سوى إبقاء يسوع المسيح جثّة مسروقة ومدفونة، ولا سبيل لذلك سوى بتهجير المسيحيين وسلخهم من أصولهم وأقطارهم إلى غرب بات اليوم علمانويًّا بالمطلق، ويخشى بعض المتابعين، أن يكون جزء من الكنيسة الغربيّة بكثير من منعطفاتها متورّطة بهذه العمليّة إسقاطًا لتعابير صادرة عن بعض كرادلة في حقبات سابقة تتناول الوجود المسيحيّ في الشرق بكثير من الالتباس والإبهام.

ما يشي بتلك الرؤية، ذلك الصمت المهيمن بشدّة على كثير من المآسي الحالّة بالمسيحيين العرب والمشارقة في العراق وسوريا وفلسطين. لم تجز تلك المآسي أبوابنا هنا وهنالك، من نافذة الصدفة، بل من تخطيط وجد في الخمسينات من القرن المنصرم برسائل متبادلة بين أقطاب إسرائيليين متشددين وهم ديفيد بن غوريون وموشي شاريت وإسحق ساسون. واللافت في هذا السياق أن هؤلاء غاصوا باستلذاذ شديد في المذاهب المسيحية وعلاقتها ببعضها، فانكب الغوص على مدى توظيف الخلافات بين المسيحيين باتجاه الانفجار البنيويّ وبخاصّة في لبنان ليسهل قضمهم ومن ثمّ هضمهم، ويكون ذلك المقدّمة الفعليّة لسلخهم وبتر وجودهم. حدث ذلك في فلسطين ليس فقط بالتهجير الذي قامت به إسرائيل بل بتفريغ القدس وباقي المدن والقرى المسيحية من المكوّن المسيحيّ، وتحديدًا العربيّ أو المشرقيّ. التركيز في مسألة الهويّة بالنسبة إلى اليهود تبقى عقائديّة استراتيجيّة للغاية، وهو الوتر الحسّاس في معادلة الصراع وتوجهاته. انكشف هذا الأمر ولا يزال قيد الانكشاف، برفض إسرائيل المطلق، استعادة العرب الأرثوذكس كنيستهم هناك، وتغطية الاستئثار اليونانيّ برئاستها، فاستمرّ البطريرك اليونانيّ ممعنًا ببيع الأوقاف لليهود، وتجويف المسيحيين هناك من هويتهم الأصيلة. أحد الوجوه هناك، كتب قائلاً: "ما يحصل مؤامرة كبرى تهدف لتهجيرنا وإبعادنا بمجرّد بيع العقارات، وهي مؤامرة للقضاء على كنيسة القيامة، وستستكمل بوجه المسلمين للقضاء على الجامع الأقصى وهذا تخطيط وجد في منتصف الصراع في سوريا، والصراع في سوريا يملك هذا الهدف بخصوصيّته الدقيقة، والتي تصبّ في هدف ضرب فلسطين إنطلاقًا من تجويف المكون المسيحي من هويته ليسهل ضرب كنائسه وعلى رأسها كنيسة القيامة".

وإذا شئنا بعض التفصيل، فإن حرب لبنان، وتهجير المسيحيين من بعض قراهم وصولاً إلى ما سمّي بحرب الجبل هو الجزء الجوهريّ من هذا الكلّ الخطير. ودارت المأساة نحو العراق بشراسة قلّ نظيرها بتخطيط إسرائيليّ واضح استعمل الورقة التكفيريّة مرورًا بسوريا بالاعتداءات على مناطق تعتبر مسيحية كمعلولا وصيدنايا ووادي النصارى ومحردة... وتهجير المسيحيين من الموصل وسهل نينوى. تمّ هذا التهجير المتعمّد بالتماهي التام مع تفريغ القدس من المسيحيين غبر بيع الأوقاف من البطريرك اليونانيّ كما سيقت الإشارة.

لسنا إذًا وبهذا المعنى أمام صراع سياسيّ عابر على الطريقة اللبنانيّة. نحن أمام صراع وجوديّ وآخر بنيويّ، وهما يعبران عن وجه واحد وهدف واحد. التكفيريون كما البطريرك اليونانيّ في القدس إختراع وابتكار إسرائيليّ يحوي هذا الهدف بخصوصيّته وأبعاده الاستراتيجيّة. غير أنّ الصراع البنيويّ المنفجر في لبنان سياسيًّا وشعبيًّا هو الأشدّ خطورة وفتكًا. وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين التنوّع السياسيّ المنطلق من مسلّمة الوجود، والصراع الذي يبيد مسلمة الوجود إبادة كاملة. الطامة الكبرى أنّ الخلاف السياسيّ في لبنان تخطّى مفهوم التنوّع الإيجابيّ المطلوب ديمقراطيًّا نحو صدام بنيويّ اباح تمزّقًا عميمًا لا يمكن أن يردمه حتى انتخاب رئيس جمهوريّة له حيثيّته التمثيليّة، بقدر ما يردمه قبل أي شيء آخر اتفاق مسيحي-مسيحيّ يوصّف عمق الأزمة المشرقيّة الوجوديّة، الناتجة من تلك العناصر والأسباب الموجبة منذ نشوء دولة إسرائيل وصولاً إلى ما يحصل في سوريا والعراق وفلسطين وتلك بلدان تعنينا فعليًّا لأنّ أزماتها تصبّ في لبنان وتستهلك الأرض اللبنانيّة بتفاصيلها ومفرداتها وأبعادها وأهدافها.

ما ينقص مسيحيي لبنان، وما ينقص أيضًا الكنائس المسيحيّة ببطاركتها ومطارنتها، ذلك الإحساس الحقيقيّ بخطورة الأزمة الوجوديّة. إنّ السلوكيات تعاني كثيرًا من السطحيّة وتتحرّك من لامبالاة في العمق مغلّفة بمبالاة شكليّة. تلك هي المعاناة الكبرى والخطيرة، القائمة في الانفصام بين المضمر والمعلن. إن عنوان الأزمة لا يختصر في لبنان بانتخاب رئيس للجمهوريّة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّ انتخاب رئيس يملك القدرة والرؤى هو مطلّ حيويّ. الأزمة هي أزمة هويّة نفقدها، ومتى فقدناها سهل القضاء علينا.

الأزمة المسيحيّة هي أزمة هويّة ووجود. لم يذق مسيحيو لبنان بخاصّة، أنّ الهويّة هي الوجه والكيان. لم يتعامل مسيحيو لبنان مع الأزمة المشرقيّة على أنّها تخصّهم بلاهوتهم، لكون اللاهوت المكتوب بكلمات ودماء مشرقيّة هو المحدّد للوجود. لم يتملكهم الإحساس بأنّ تلك العاصفة تشاء القضاء بصورة مباشرة على المسيحيّة كأطروحة تخصّ المسيح نفسه لأنها ولدت من أزلية ألوهته وتاريخيّة ناسوته، بل ساروا في العاصفة، وتماهوا مع القوى اللاعبة وتاهوا في مصالح ضيّقة اندرجوا بها حتى الثمالة، والقيادة الروحيّة غافلة عن تلك الحقيقة.

مسيحيو لبنان مدعوون لنحت خطاب وجوديّ مشرقيّ جديد يحاصر العاصفة. بداءة الحصار لقاء مسيحيّ-مسيحيّ ترعاه الكنيسة جمعاء، يدرك الجميع فيه أن إسرائيل تشاء القضاء على المسيحيين والمسيحيّة بقوى تكفيريّة ودول أخرى استعملت لبنان وتستعمل سوريا والعراق لحروبها، وتشاء استهلاك المسيحيين للقضاء على آخر مقومات وجودهم. لعل ميلاد المسيح يكون المنطلق للتفكير بتلك العناوين خارج منطق التكفير الأعمى.