صحيح أنّ المساحات الجُغرافية الواسعة التي بات يُسيطر عليها تنظيم "داعش" الإرهابي والتي تُقدّر بنحو 50 % من إجمالي مساحة سوريا، بعد سقوط مدينة تدمر وأجزاء كبيرة من البادية السورية في يده خلال الأيّام القليلة الماضية، هي غير مأهولة بأغلبيّتها حيث أنّ المُدن والبلدات فيها لا تتجاوز 10 % من إجمالي هذه المساحة، لكنّ الأصحّ أنّ تنظيم "داعش" صار لاعباً فعّالاً جداً على الساحة السورية وتأثيره حتمي بالنسبة إلى مُستقبل الحرب هناك. فكيف وصل إرهابيّو "داعش" إلى هذا الحجم في سوريا، وما هو مُستقبل علاقتهم مع النظام ومع باقي الفصائل التي تُقاتل على الأرض السورية؟

بالنسبة إلى أسباب نُموّ تنظيم "داعش" بهذا الشكل الكبير، وتوسّع سيطرته في سوريا، فأبرزها تُختصر بالتالي:

أوّلاً: عندما فشل النظام السوري في وقف التظاهرات الشعبيّة المُناهضة له في فصل الربيع من العام 2011، عبر أجهزته الأمنيّة والإستخباريّة، إتخذ قراراً إستراتيجياً لتحويل ما بدأ بثورة شعبيّة على حكم ديكتاتوري في سوريا، إلى خطر إرهابي على العالم أجمع. وهو ركّز كل عمليّاته القتالية العنيفة على مدى سنوات ضدّ الوحدات العسكريّة التي إنشقّت عن الجيش النظامي تحت مُسمّى "​الجيش السوري​ الحرّ"، إنطلاقاً من إقتناعه أنّ هذه القوى هي وحدها الخطر الفعلي عليه لأنّها تُشكّل البديل لنظامه ولحكمه، بينما الجماعات المُسلّحة الأصولية التي تجنّب قتالها على مدى سنوات، لا يُمكن أن تكون بنظر الغرب سوى جماعات إرهابية من الواجب قتالها وسحقها. ونجح مُخطّط النظام السوري بشكل لافت، بحيث إضمحل وجود ونفوذ "الجيش السوري الحرّ" بشكل كبير جداً في سوريا، على حساب نموّ وسيطرة الجماعات المُصنّفة إرهابيّة. وقد أصاب النظام عبر خطّته هذه أكثر من عصفور بحجر واحد، فهو أضعف الوحدات النظامية التي إنشقّت عن الجيش، وجعل العالم أجمع يتحوّل من داعم لما كان يُعتبر بالأمس "ثورة شعبيّة" إلى مُتخوّف من خطر وإرتدادات الجماعات الإرهابيّة على العالم، ودفع أيضاً القوى المُسلّحة المُناهضة لحكمه إلى التقاتل في ما بينها نتيجة تضارب الجهات الداعمة والمصالح والأهداف، وطبعاً بفعل التنافس على الأرض. في المُقابل، سمحت هذه السياسة لتنظيم "داعش" الذي تشكّل من توحّد عشرات الفصائل الإسلاميّة المُسلّحة، بالسيطرة على مساحات ميدانية واسعة، خاصة بسبب عدم قتالها ولا قصفها بشكل جدّي من قبل الجيش السوري، وبسبب ضعف القوى والفصائل المُسلّحة الأخرى المعارضة والتي قاتلها النظام بشراسة وأضعفها بشكل كبير.

ثانياً: مَوّلت العديد من الدول والجماعات العربيّة والجهات الإقليميّة المُؤثّرة فصائل إسلاميّة مُتشدّدة عدّة، على أمل أن تُقاتل النظام السوري بشراسة كبيرة، كما سبق وفعلت هذه الجماعات نفسها ولو تحت مُسمّيات مختلفة، عندما قاتلت على سبيل المثال لا الحصر جيش الإتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان(1)، وجيش الولايات المتحدة الأميركيّة في العراق(2)، لكنّ تضارب مصالح الدول والجهات الداعمة، وتباين أهدافها ومطالبها، وتوحّد العديد من الجماعات المُسلّحة تحت مُسمّى "داعش" مع وجود أهداف عقائديّة خاصة بهذا التنظيم، أسفر عن خروج كل هذه الجماعات الإسلاميّة عن السيطرة المُباشرة للقوى التي دعمتها في المرحلة الأولى، وباتت تتحرّك باستقلاليّة معيّنة مُحوّلة التوظيف السابق لصالحها.

ثالثاً: في الأشهر القليلة الماضية، ومع توسّع نفوذ تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق، صار مقاتلوه في سوريا يستفيدون من دعم لوجستي كبير عبر حدود مُشتركة مفتوحة أمام حركة العديد والعتاد. ومع تركيز النظام السوري على مُهاجمة مقاتلي "جبهة النصرة" ومتفرّعاتها مثل "جيش الإسلام" وغيره، إستفاد تنظيم "داعش" مرّة جديدة من عدم قتاله جدياً من قبل الجيش السوري، ومن ضعف الفصائل الأخرى بسبب قتالها ضدّه وضدّ الجيش السوري في الوقت نفسه، ليُسيطر على مدينة تدمر وعلى أجزاء واسعة من البادية السوريّة وصولاً إلى الحدود مع العراق. وذهبت بعض التقارير الغربيّة بعيداً في الحديث عن سحب مُتعمّد لوحدات من الجيش السوري من تدمر والمحيط إلى جبهات أخرى في سوريا، الأمر الذي شكّل ثغرة كبيرة إستغلّها تنظيم "داعش" في الأيّام القليلة الماضية ليُسيطر على مساحات جغرافية واسعة، وليستكمل الحصار البرّي على النظام السوري الذي لم يعد يتحكّم بأيّ معبر برّي مهمّ مع دول الجوار بإستثناء لبنان(3).

وبالنسبة إلى مُستقبل تنظيم "داعش" في سوريا، فهو الذي سيُبادر من اليوم فصاعداً إلى قتال الجيش السوري بوتيرة أكبر من السابق، إستكمالاً لمخطّطه الإستراتيجي القاضي بإقامة دولة الخلافة المزعومة والتي لا تعترف بأيّ حدود سابقة بين سوريا والعراق. كما أنّ معارك "داعش" مع باقي الفصائل التي تُقاتل النظام ستتواصل أيضاً، علماً أنّ سبب تراجع وتيرتها يعود إلى تراجع مواقع التداخل الميداني بين الطرفين إلى الحدود الدنيا، بعد سلسلة من المعارك الماضية فرزت خرائط الأرض بشكل واضح بين مُختلف القوى.

وفي الخلاصة، لا بد من التذكير أنّ تنظيم "داعش" الإرهابي لم يَظهر من العَدم، بل هو عبارة عن تراكمات حُروب وصراعات سياسية وعسكريّة ودينيّة وعقائديّة دخلت على خَطّها الكثير من الدول والجهات، إستخداماً وإستغلالاً وتوظيفاً لغايات ومصالح خاصة ومُتضاربة. وهذا التنظيم أو هذا "الوحش" الذي جرت تغذيته من كل حدب وصوب لأسباب مختلفة ولأهداف متضاربة، خرج تماماً عن السيطرة، وبات يُعتبر عدوّاً شرساً للجميع، وهو سيُقاتَل في المُستقبل من قبل كل من النظام وحلفائه وكذلك من قبل خصومهم أيضاً. فكل من راهن على "داعش" في وقت من الأوقات، ومن بينهم النظام السوري، إرتدّ هذا الرهان عليه اليوم!

(1)حارب جيش الإتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان إعتباراً من 24 كانون الأوّل 1979 حتى 15 شباط 1989، لتنتهي المعركة بإنسحاب الجيش السوفياتي السابق مهزوماً.

(2)بعد السيطرة على العراق في هجوم 20 آذار 2003، بدأت الهجمات المُسلّحة والتفجيرات ضد الجيش الأميركي، وبقيت مُستمرّة حتى إنسحابه في 15 كانون الأوّل 2011، بعد وقوع آلاف القتلى والجرحى في صفوفه.

(3)فقد النظام السوري سيطرته على المعابر مع كل من العراق والأردن وتركيا، حيث أنّ المعابر القليلة جداً التي لا تزال بيده مُقفلة من الجانب الآخر، لكن مع بقاء معابره الحدودية مع لبنان مفتوحة.