بعد أن أقدمت «المعارضات السورية» التابعة ل​أميركا​ و​السعودية​ على وضع العراقيل أمام بدء عقد جولة جنيف رقم ثمانية بمحاولة وضع شروط مسبقة والتمترس عند شعارات وطروحات عفا عليها الزمن وباتت من الماضي، عمدت إلى التخلي عن الإصرار على ذلك نزولاً عند طلب المبعوث الدولي ​ستيفان دي ميستورا​، الأمر الذي دفع وفد الدولة الوطنية السورية برئاسة الدكتور ​بشار الجعفري​ إلى السفر من دمشق إلى جنيف بعد أن امتنع عن مغادرة دمشق قبل أن تزال أيّ شروط مسبقة. غير أنّ ذلك لم يضع حداً للعراقيل بل إنّ مندوبي أميركا والسعودية عملوا على الاستمرار في طرح المواقف التي تشكل خروجاً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي حدّد بوضوح الأسقف للحلّ السياسي، وهي احترام سيادة واستقلال سورية واحترام حقوق السوريين في تقرير من يكون رئيس جمهورية سورية وممثليهم في البرلمان، وبالتالي فإنّ أيّ حوار يجب أن يكون سورياً سورياً ونتائجه تعرض على استفتاء شعبي للموافقة عليها. ومن الواضح أنّ هؤلاء تلقوا تعليمات أميركية سعودية لعدم الالتزام بمنطوق القرار الدولي، لأنه لا يخدم أهداف واشنطن والرياض لا سيما بعد التحوّلات الكبيرة في الميدان والتي جعلت ​الدولة السورية​ وحلفاءها في موقع المنتصر القادر على فرض شروط الحلّ السياسي وفق القرار المذكور، ولهذا انتهت جولة جنيف الجديدة إلى الفشل كسابقاتها، لكن المبعوث الدولي المعروف أيضاً بالتزاماته الأميركية عمَد إلى تحميل الوفد الرسمي السوري مسؤولية الفشل، الأمر الذي كشف مجدّداً خروج دي ميستورا عن دوره الوسيط والمشرف على تنفيذ القرار 2254 وأنه لا يعدو كونه منفذاً أميناً لما تمليه عليه الإدارة الأميركية.

من الواضح أنّ هذه العراقيل التي وضعت عن قصد، تزامنت مع إعلان واشنطن عن التمسك ببقاء قواتها في الأراضي السورية، على الرغم من فقدانها المبرّر الواهي الذي زعمته وهو محاربة ​تنظيم داعش الإرهابي​ الذي هُزم على أيدي ​الجيش السوري​ وحلفائه، وكانت القوات الأميركية طوال الوقت تعمل على عرقلة تقدّم الجيش السوري وتقوم بتمكين قيادات وكوادر داعش من الهرب، كما تزامنت مع كشف القيادة العسكرية الروسية في قاعدة «حميميم» في مدينة اللاذقية عن بدء القوات الأميركية في شمال سورية بعمليات تدريب بضع مئات من العناصر الإرهابية التي فرّت من محافظة دير الزور وتلك التي ساعدتها المروحيات الأميركية، في سياق إنشاء ما يسمّى «جيش سورية الجديد»، لمواصلة حرب الاستنزاف ضدّ الجيش السوري وحلفائه بدعم من القوات الأميركية، وذلك لتأخير انتصار سورية النهائي على قوى الإرهاب وتفادي أميركا استحقاق مطالبتها بالانسحاب من سورية وإلا ستواجه مقاومة شعبية باعتبارها قوات محتلة… كما قال الرئيس ​بشار الأسد​ قبل أسابيع في افتتاح الملتقى العربي الأوّل لمواجهة المحور الأميركي الصهيوني الرجعي العربي في دمشق.

لكن واشنطن تعرف أنّ مئات أو حتى آلاف من الإرهابيين الذين تدرّبهم لن يكون بمقدورهم تحقيق ما عجز عنه عشرات الآلاف من الجيوش الإرهابية المدرّبة والمجهّزة بأحدث الأسلحة والمدعومة بالمال ووقف وراءها حلف دولي ناهز الماية دولة بقيادة أميركا، كما أنّ واشنطن تدرك انّ دخول قواتها في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري وحلفائه في محور المقاومة يعني انزلاقها إلى حرب واسعة تحتاج منها إلى إرسال عشرات الآلاف من جنودها وتخصيص المليارات من الدولارات، وهي عدا عن أنها غير جاهزة لذلك لأنها لا تريد التورّط في حرب جديدة مكلفة أكثر من حرب العراق، تدرك أيضاً أنها ستخرج منها مهزومة ومثخنة بالمزيد من الجراح التي ستسرع في انهيار الإمبراطورية الأميركية التي دخلت في مرحلة الأفول.

إذا كانت واشنطن تعرف كلّ ذلك فلماذا تصرّ على الاستمرار في الإبقاء على عدة آلاف من جنودها وتدرّب بضع مئات من الإرهابيين؟

بعد خسارتها ورقة داعش، وظهر بوضوح أنّ الورقة الكردية غير مضمونة في ضوء المواقف الكردية التي أطلقت من أنّ قوات «قسد» ستكون جزءاً من الجيش السوري، فيما أعلنت تركيا عن عدم اعتراضها على مشاركة أكراد سورية في مؤتمر سوتشي المقبل، تريد الإدارة الأميركية استخدام ورقة جديدة لتبرير بقاء قواتها في سورية، وبالتالي استخدامها وسيلة لمحاولة فرض بعض الشروط السياسية للخروج من الأزمة وخصوصاً شرط ضمان تشكيل حكومة سورية تشارك فيها الجماعات الموالية لها وتملك بعض الصلاحيات الدستورية، وذلك قبل إجراء الانتخابات الديمقراطية التي يجري على أساسها تحديد الأحجام السياسية وبالتالي تشكيل الحكومة بناء عليها. فواشنطن تدرك أنّ الجماعات التابعة لها لا تملك وزناً شعبياً وهي لا تعدو سوى استطالة لها وايّ حضور لها في قلب مؤسسات الدولة السورية مرهون بالضغط الخارجي وليس بما ينتج من الانتخابات. الأمر الذي يكشف مجدّداً زيف ادّعاء أميركا الدفاع عن الديمقراطية واحترام حقوق الشعوب في تقرير شؤونها عبر الانتخابات الديمقراطية.

لكن الأكيد أنّ ما عجزت عن تحقيقه أميركا طوال السنوات الماضية من عمر حربها الارهابية، لن تستطيع الوصول إليه بعد ان مُنيت القوى الإرهابية الأساسية التي أرسلتها بالهزيمة، وسورية تقترب من القضاء على ما تبقى منها في بعض الجزر في البلاد. كما انّ ما رفضت القبول به الدولة السورية في أصعب الأوقات عندما كانت الحرب في ذروتها ورهان الأعداء على بلوغ أهدافهم لا يزال كبيراً، من الطبيعي أن ترفضه اليوم وهي قد أصبحت قاب قوسين من إعلان انتصارها النهائي في حربها الوطنية ضدّ أشرس وأكبر حرب إرهابية استعمارية عرفها العالم ضدّ دولة مستقلة رفضت الخضوع للهيمنة الأميركية وتمسكت باستقلال قرارها الوطني.

لهذا فإنّ أميركا ليس أمامها من خيارات متاحة سوى السير في التسوية السياسية التي حدّد مضمونها قرار مجلس الأمن رقم 2254، والتسليم بسيادة واستقلال سورية وحق شعبها في تقرير مصيره بعيداً عن تدخلاتها وإملاءاتها، إذا كانت تريد أن تخرج من سورية على نحو تحفظ فيه بعضاً من ماء وجهها.