بعد سنوات طويلة من المُناكفات السياسيّة والعراقيل المُصطنعة، وقّع ​لبنان​ رسميًا في التاسع من شباط الماضي عُقود إتفاقيّتي ​النفط​ والغاز للبلوكين 4 و9 مع "كونسرتيوم" يضمّ ثلاث شركاتعالمية، هي: "​توتال​" الفرنسيّة و"إيني" الإيطاليّة و"نوفاتك" الروسيّة. وبعيدًا عن اللغط الكبير لدى الرأي العام اللبناني المقسوم بين من يعتبر أنّ لبنان صار بلدًا نفطيًا وأنّ الأموال ستتدفّق عليه من كل حدب وصوب، ومن يعتبر أنّ ما تحقّق حتى اليوم هو مُجرّد فقاعات إعلاميّة لا تُطعم خبزًا، لا بُدّ من توضيح الحقائق بالنسبة إلى ما يحصل على الأرض حاليًا بالنسبة إلى عمليّات إستخراج ​النفط والغاز​، وخُصوصًا بالنسبة إلى موعد البدء بتحقيق الأرباح وتدفّق الأموال على ​الدولة اللبنانية​ والشركات الخاصة و​الشعب اللبناني​.

بحسب الإختصاصيفي النفط والغاز عبّود زهر إنّ عمليّات إستخراج النفط والغاز لا تتم بسحر ساحر وبين ليلة وضُحاها، بل تمرّ في عمليّة مُمنهجة تستغرق سنوات طويلة، بعكس ما يظنّ الكثيرون. وأوضح أنّ المسألة تبدأ بمسح زلزالي بأجهزة متطوّرة للمواقع المُشتبه بوجود النفط والغاز فيها،وهذه المرحلة أنجزت وتمّ بيع ​المسوحات الزلزالية​ من قبل الشركات التي قامت على نفقتها الخاصة بجميع الأعمال، بحيث بلغت حصّة الدولة اللبنانية مبلغًا وقدره 34 مليون ​دولار​. ثم ينطلق العمل على بئر استقصائييتمّ حفره على أعماق ضخمة بآلاف الأمتار تحت قاع البحر، وهذا ما لم يحصل حتى الساعة، لنبلغ بعد ذلك مرحلة حفر البئر التجريبي المُخصّص لتقدير كميّة الغاز ولأخذ عيّنات منه، لدراسة وتحليل وتقييم نوعيّته، إلخ. وشدّد على أنّ الكمية المتوقعة لا يُمكن التكهّن بها من اليوم، لأنّ الإجابة تأتي بعد الحفر. وتابع زهر أنّه في حال كانت النتائج إيجابيّة، يتمّ الإعلان عن إكتشاف تجاري وإمضاء العُقود التسويقية، لافتًا إلى أنّ المرحلة التالية تتضمّن بناء المنصّات والبنية التحتية، لتنطلق بعد ذلك مرحلة الإنتاج التي تمتدّ لنحو 25 سنة (بحسب العقد الموقّع بين الدولة و"الكونسرتيوم")، على أن يتم عند نُضوب الغاز تفكيك المنصّات والتي هي أيضا عملية مكلفة جدًا، ويمكن أن تستغرق لغاية السنتين.

وأوضح زهر أنّ الشركات المُتحالفة إرتأت التقدّم على البلوكين رقم 4 ورقم 9، بسبب توقعاتها بسرعة تحقيق الأرباح منهما، مؤكّدًا أنّ البلوك رقم 9تابع للبنان بالكامل، وقد لا تلجأ الشركات إلى الحفر في نسبة الخمسةبالمئة موضوع الخلافوالتي تدعي ​إسرائيل​ أنّها ملكها. وأشار إلى أنّ حصّة الدولة تختلف بين البلوكين، وهي أعلى في البلوك رقم 4 ممّا هي في البلوك رقم 9،فبحسب وزير الطاقة و​المياه​ المهندس ​سيزار أبي خليل​ فهي تتراوح بين 65 و71 % في البلوك رقم 4 مثلاً. وقال زهر إنّ الخلافات على ما إصطلح على تسميته"الصندوق السيادي" لا تزال قائمة، بسبب عدم حسم الجهة الرسميّة التي ستتولّى الإشراف المُباشر على هذا الصُندوق والتحكّم بأمواله، حيث أنّ الآراء مُتضاربة في هذا الصدد، وعمليّات "شدّ الحبال" قائمة بين رأيين الأول يدعو الى وضعه تحت وصاية ​وزارة المال​، والثاني بأن يتولّى "​مصرف لبنان​" إدارة هذه الأموال. وأضاف انّ التباين قائم أيضًا إزاء وجهة إستخدام أموال "الصندوق السيادي" حيث يرغب بعض الأفرقاء بأن تُستثمر في مشاريع بنى تحتيّة، مع تخصيص صناديق دعم لقطاعات مُختلفة، بينما يُطالب أفرقاء آخرون بأن تُوجّه الأموال لخفض ​الدين العام​ بشكل تدريجي لإزالة ​الآثار​ السلبيّة لهذا العبء المالي الذي تفاقم وصار يُشكّل تهديدًا على الإستقرار المالي والإقتصادي للدولة اللبنانيّة، مع العلم أنّ الغاية الأساس من هذا الصندوق تكمن في حفظ جزء من الثروات المُكتسبة لصالح الأجيال اللبنانيّة المُستقبليّة.

وعن القطاعات التي ستستفيد من القطاع النفطي، أوضح زهر أنّ المسألة ترتبط بالعديد من الشركات والجهات التي يُفترض أن تؤمّن الدعم اللوجستي لشركات إستخراج النفط والغاز. فكل العمّال والموظفين والمهندسينالتابعين لشركات "الكونسرتيوم" سيتواجدون على الأراضياللبنانية، مع كل مُتطلبات المسكن والمأكل، والتنقل البرّيوالبحري وحتى الجويّ إلى منصّات التشغيل وبين مراكز العمل والإدارة. كما أنّ شركات بناء منصّات وأنابيب إستخراج النفط والغاز ومصافي التكرير-في حال كان الإكتشاف نفطيًا، وكذلك توفير كل خدمات الصيانة وقطع الغيار، تستوجب بدورها القدوم إلى لبنان، وتأسيس شركات لهذه الغاية. وسيخضع العمّال والموظّفون في هذا القطاع إلى دورات تدريبيّة وتأهيليّة من قبل شركات مُتخصّصة، علمًا أنّ العقود الموقّعة مع "الكونسرتيوم" تُوجب أن تكون نسبة العمّال والموظّفين الللبنانيّين بحُدود 80 % من إجمالي هؤلاء. كما ستستفيد شركات نقل عدّة في مراحل لاحقة، وتحديدًا خلال مراحلتكرير النفط وتخزينه-في حال كان الإكتشاف نفطيًا، من عمليّات نقل النفط قبل تصديره إلى الخارج عبر ​السفن​ البحريّة والناقلات العملاقة. حتى أنّ الرواسب المُتبقية بعد عمليات تكرير النفط وتنقية الغاز تُستخدم في صناعات بتروكيمائية، الأمر الذي سيُنعش المزيد من القطاعات، إلخ.

في الخلاصة، لا بُد من التذكير بأنّه بحسب البرنامج المقدم من الشركة المشغّلة "توتال"، إنّ أعمال الحفر في البلوكين 4 و9 يُفترض أن تبدأ أواخرالعام 2019 المُقبل، لكنّ الشروع في إستخراج النفط والغاز، وتحقيق المردود المباشر من ذلك غير مُرتقب عمّا قريب، فهو سيكون بعد نحو 8 إلى 10 سنوات من اليوم. وحتى ذلك الحين، ستنتعش قطاعات محدودة بشكل تصاعدي، وُصولاً إلى الذروة في الإنعكاسات الإقتصادية الإيجابيّة على لبنان بعد نحو عقد من اليوم. لكن في النهاية، مُجرّد التعاقد مع شركات عالميّة عملاقة على غرار "توتال" و"إيني" و"نوفاتيك" يُمثّل خطوة إيجابيّة جدًا للبنان، كون طبيعة عمل هذه الشركات ينطبق عليه أيضًا صفة المُستثمر حيث يُتوقّع أن تُضَخّ في السنوات الخمس الأولى مبالغ تزيد قيمتها على مئة مليون دولار، قابلة للتصاعد إلى حُدود المليار دولار-في حال تحقيق الإكتشافات المنشودة، ومع كل المناخ الإيجابي الذي ستتركه على الجوّ الإستثماري في لبنان بشكل عام.