استِكْمالاً لما أَشَرْنا إِلَيْه الأُسْبوع الماضي، في المَقالةِ المُعَنْوَنة "سيرَة الحَميرِ في وزارة الثَّقافة"!، والتَّوقُّف عند خَصائِص الحِمار ومَزاياه... ومنها أَنَّ:

1-الحِمار مُمْتازٌ في الإِصْغاء...

2-الحِمار يَتعلَّم مِن أَخْطاء غَيْره...

3-الحِمار "رجلٌ" بكلِّ مَعْنى الكَلِمة أَيْضًا...

نَرْفَعُ في ما يَأْتي باقي الخَصائِص والمَزايا:

4-للحِمار عَيْنٌ "زِئْبَقيَّةٌ"، تُخوِّلُه إِرْشادَنا إِلى أَفْضل خَريطَةٍ لشَقِّ الطُّرق، وهذا ما تَعلَّمْناه في المَدْرسة... وأَمَّا نَحْن البَشر، فيَتباهى أَحَدُنا بأَنَّه حَصل على شَهادةٍ جامعيَّةٍ في هَنْدسةِ الطُّرق، فيُعلِّق شَهادته على الجِدار في مكتبِه، ويَشْرَع... يُنفِّذ خارِطةً أَرْشَده إِلَيْها الحِمار!. ومع ذلك فإِنَّ هذا الحَيوان لا يُظْهِر إِلاَّ التَّواضُع...

5–الحِمار كائِنٌ وَديعٌ ومُسالِمٌ، يَتعايَشُ مع كلِّ مَخْلوقات الله على الأَرْض، ولا مُشْكلةَ له مع أَحدٍ. وهو إِلى ذلك "يَعْلمُ" أَكْثرَ منَّا بِنَظريَّة "التَّوازُن في الطَّبيعة" وكيف أَنَّ لكلِّ كائنٍ حيٍّ دورًا، وأَنَّ للمُحافَظة على هذا الدَّوْر يَنْبَغي الحِفاظُ على كلِّ الكائِنات... بَيْنما الإِنْسان يَعيثُ بالطَّبيعة فَسادًا!. وفي هذا الإِطار فالاهْتِمام بفِقْدان التَّنوُّع البيولوجيِّ، كان مُركَّزاً في شَكْلٍ خاصٍّ على أَنْواع الثَّدْييَّاتِ الكَبيرةِ... وفي العام 2011، عَمِل أُسْتاذ البيئَة هانز دي كرون، على تَدَهْور أَعْداد الطُّيور، وهو افْتَرضَ أَنَّها تُعاني مِن نَقْصٍ في الغِذاء، وبِخاصَّةٍ الحَشرات، لكنَّهُ لم يَكُن يَمْلك بَياناتٍ تُثْبِت ذلك. وأَكَّد العُلماءُ أَنَّ البَياناتِ، تُشير إِلى انْخِفاضٍ حادٍّ في عددِ الحَشَرات. وخِلال البَحْث عن السَّبَب، وَفَّر مُحيط "كريفلد"(مَدينَة أَلمانيَّة، تَقع في ولايةٍ شَمال الرَّايْن)، بَعْض الأَدلَّة: فمِن مَسافةٍ بَعيدةٍ، تُطْلق المَداخِنُ الصِّناعيَّةُ سُحُبًا مِن الدُّخان، وفي جانبٍ من الطَّريق، تَقَع مَحْميَّةٌ طَبيعيَّةٌ. ومِن الجِهَة الأُخْرى، يُرَشُّ حَقْلُ شَمَنْدرٍ سُكَّريٍّ بالمُبيدات، بِواسطةِ آلةٍ زِراعيَّةٍ. وكانَتِ الإِجابةُ أَنَّ المَحْميَّاتِ الطَّبيعيَّةَ لَيْست مَحْميَّةً في شَكْلٍ جَيِّدٍ، إِذْ إِنَّ مساحَة الطَّبيعةِ في أُوروبا الغَرْبيَّة تَقلَّصَتْ، ولا تَسْتَطيع الحَشَراتُ الحُصولَ على الطَّعامِ في الحُقول الزِّراعيَّةِ. كَما وأَنَّ مَناطِقَ الطَّبيعَة أَصْبَحت مَعْزولةً أَكْثر فَأَكْثر، وبالتَّالي لا يُمْكن أَنْ تَنْتقل الحَشراتُ مِن مِنْطقةٍ إِلى أُخْرى، فهي بعيدةٌ جدًّا عن بَعْضها البَعْض!.

وعلى رُغْم أَنَّ السَّبب الدَّقيق لهذا التَّراجعِ الدراماتيكيِّ للحَشَرات لم يَتَّضِح بعد، إِلاَّ أَنَّ السَّبب من صُنْع الإِنْسان، فيما الخَوْف الأَكْبر هو مِن الوصُولِ إِلى نقطة اللاعَودْة، وهي خسارةٌ دائمةٌ للتَّنوّع الحَشريِّ. وعليه، فإنَّ الحِمارَ –في هذه الحالِ- يُعَدُّ "مُهَنْدسَ التَّوازُناتِ الطَّبيعيَّةِ"، بسلوكه المسالم مع كلّ الكائِناتِ الحَيَّةِ في الطَّبيعةِ!...

ومن أَلْمانيا إِلى أُستراليا حيث أَدَّى بَحْثُ "كريفلد" دَوْرًا أَساسيًّا في الدِّراسةِ التَّحْليليَّةِ الَّتي نَشرَها فرانسيسكو سانشيز بايو وكريس ويكويز من جامِعتَي "سيدني" و"كوينزلاند" الأُسْتراليَّتَيْن. فقد نَشَر الباحِثان دِراسةً تَحْليليَّةً لـ73 بَحْثًا، وكانَت النَّتيجة الأُوْلى عَن الحَشَراتِ في أَنْحاء مُخْتلِفةٍ مِن العالَم، بَيْنها "كوسْتاريكا"، وجَنوب فرنسا، على مَدى السَّنوات الأَرْبعين الماضِيَة. وقد اسْتَنْتَجا أَنَّ أَكْثر من 40 في المِئَةِ مِن أَنْواعِ الحَشَرات مُهدَّدةٌ بالانْقِراض، وتُضافُ كلَّ سنةٍ حوالي 1 في المِئَة منها إِلى هذه القائِمَة. ولاحَظا أَنَّ هذا الرَّقْم يُعادِل الانْقراضَ الجَماعيَّ الأَضْخَم مُنْذ اخْتِفاء "الدِّيناصورات". ويَبْدو أَنَّ الدَّوافِع الرَّئيسيَّة لذلك، تَتمثَّل في فِقْدان المَوائل الطَّبيعيَّةِ، وتَحْويل الأَراضي إِلى الزِّراعات الكَثيفةِ، إِضافةً إِلى التَّحضُّر والتَّلوُّث وتَغيُّر المُناخ وغيرها... وكُلُّها من صُنع الإِنْسان، فيما الحِمار قَد "غَسل يَدَيْه مِن قَتْل الطَّبيعَة"!.

إِنَّ وَداعة الحِمار، جَعَلَت السَّيِّد المَسيح يختارُه دون سِواه من الدَّوابِ، ليَدْخل أُورَشَليم على ظَهْر "جَحْش ابْن أَتان"، وسط سُعُف النَّخيل، رَمْز السَّلام الآتي إِلى البّشَرِ في مَشْهديَّةٍ خَلاصيَّةٍ مِن "العَهْد الجَديد"!...

6–الحِمار كائِنٌ صَبورٌ، ولَعَلَّ الصَّبْر أَبْرز سِمَةٍ من سِمات النَّجاح، أَفَلَيْس لقبُه "أَبو صابِر"؟. وهو إِلى ذلك يَحْتَمِل الصِّعاب من دونِ تأفُّفٍ، وأَمَّا نَحْن البَشَر، فلا نُدْرك التَّمييز بين ما يوجِب علينا الصَّبْر، وما تَنْبغي حيالَه الثَّوْرة!

في الخُلاصَة، إِنَّ مِقْياس الحَضارة والرُّقيِّ، قد يتَضمَّن -في ما يتَضمَّن- إِدْراك أَهميَّة الحِمار في مُجْتَمعنا، واتِّخاذَه "قُدْوَةً" في المُثابَرة والاجْتِهاد والوَداعة والعَيْش بسلامٍ!، ومن هُنا يَبْدأُ الإِصْلاح المُجْتَمعيُّ.

لقد غادَرْتُ مَكْتب صَديقي الشَّاعر نَعيم تَلْحوق، في وزارة الثَّقافة، وأَنا عازِمٌ عَلى كِتابة مَقالةٍ فَحْواها "حَذارِ إِهانَة الحِمار"، وها أَنَذا أَفي بوَعْدي!.