فيما كان اللبنانيون يستبشرون خيراً بولادة حكومةٍ جديدةٍ يصرّ رئيسها حسّان دياب على أنّها لن تشبه سابقاتها، وستكون أبعد ما يكون عن "صراع المَحاوِر" رغم تصنيفها سلفاً من كثيرين "حكومة لونٍ واحدٍ"، جاءت التطورات الإقليميّة الدراماتيكيّة لتقلب الأمور رأساً على عقب، وتضع لبنان مجدّداً في موقفٍ "حَرِجٍ" بالحدّ الأدنى.

فإذا كان من نتيجة فوريّة لاغتيال قائد "​فيلق القدس​" ​قاسم سليماني​ في العاصمة ​العراق​ية بغداد، فهو يكمن بلا شكّ في قرع طبول الحرب في المنطقة، طبولٌ تأتي لتدحض كلّ الروايات التي تمّ تداولها في الآونة الأخيرة عن عدم رغبة أيّ من اللاعبين الإقليميين بالحرب، أو حتى بـ "تسخين" الجبهات في هذه المرحلة.

وفي حين فُسّرت العملية التي تبنّتها ​الولايات المتحدة​ سريعاً، على أنّها "إعلان حرب" ضدّ ​إيران​، التي سارعت إلى التوعّد بالردّ والانتقام، تاركةً خياراتها مفتوحة في كلّ الاتجاهات، ثمّة من قرأها على أنّها استهدافٌ لمحورٍ كاملٍ، ليس "​حزب الله​" اللبناني بمنأى عنه بطبيعة الحال.

إزاء ذلك، تُطرَح علامات استفهامٍ بالجملة، إذ كيف يمكن للبنان أن يتلقّف ما يحصل، وهو الذي يصارع أصلاً، في ظلّ الأزمات الداخلية التي يواجهها؟ هل ينجح في فرض سياسة "النأي بالنفس" مجدّداً تفادياً لتوريطه، أم أنّ المكتوب يبقى أكبر وأخطر؟!.

"ما فينا يكفينا"!

بالنسبة إلى شريحةٍ واسعةٍ من اللبنانيين، فإنّ ما حصل إقليمياً، على حساسيّته ودقّته، فضلاً عن دلالاته الخطيرة على كلّ المستويات، لا يجب أن ينعكس على الداخل اللبنانيّ بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصاً أنّ الأزمات التي يواجهها لبنان في هذه المرحلة تكفيه، وبالتالي لا يجدر به الانجرار إلى أيّ صراعاتٍ لا تغني ولا تسمن من جوع.

هنا، قد يكون أكثر منتقدي سياسة "النأي بالنفس" في محطّاتٍ سابقةٍ عدّة، من أكثر الداعين إلى التمسّك بها الآن، انطلاقاً من أنّ الواقع "المُرّ" الذي يشهده لبنان اليوم، خصوصاً على المستويين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، لا يمنحه "ترف" معاداة أيّ محورٍ من المَحاوِر، وهو يدرك حاجته للتمسّك بأيّ "بقعة ضوء" لتجاوز أزماته الداخلية، خصوصاً بعد استشراف سيناريو "الانهيار" من جانب الكثير من الخبراء.

وإذا كان لا يخفى على أحد أنّ اللبنانيين انقسموا بطبيعة الحال، في قراءة العملية الأميركية التي أفضت إلى اغتيال سليماني، عطفاً على الانقسام العموديّ اللبنانيّ بين المحورين الإيرانيّ والأميركيّ، وهو انقسامٌ انعكس بطبيعة الحال على مواقف الأحزاب السياسية الرئيسيّة ممّا حصل، فإنّ ثمّة من يعتقد أنّ "تحييد" لبنان يبقى الأساس، تفادياً لأيّ "سيناريوهات" قد يعرف أصحابها كيف تبدأ، لكنّ أحداً لا يمكنه التكهّن بنهاياتها.

ولأنّ ما يحصل جاء على أعتاب ولادة حكومةٍ لبنانيّة يصرّ "عرّابوها" على إنكار تهمة "لونها الواحد"، والمحسوب على إيران بالتحديد، ثمّة من يرى أنّ "الامتحان الأول" قد سبق هذه الحكومة، التي يبدو موقفها شديد "الحَرَج"، "حَرَج" كان كلّ الدائرين في فلكها يسعى لتجنّبه، عبر إيلاء الواقعين الاقتصادي والاجتماعي الأولوية المُطلَقة، بعيداً عن السياسة، وتحديداً "صراع المَحاوِر" الذي يفرض نفسه اليوم.

في قلب الاستهداف!

لكن، إذا كان كلّ ما سبق واقعياً إلى حدّ ما، باعتبار أنّ لبنان لا يزال في قلب الأزمة الداخليّة التي يعيشها أصلاً، ولا قدرة لديه على اختلاق أزماتٍ جديدة من حيث لا يحتسب، فإنّ ثمّة من يسأل، هل سيكون بمقدور لبنان أصلاً "النأي بالنفس" عن تطوّرات الإقليم، حتى لو أجمع أطرافه الفاعلون على الرغبة في ذلك، علماً أنّ ثمّة من أقحم اسم "حزب الله" من اللحظة الأولى، كجزءٍ من الاستهداف الأميركيّ؟!.

بالنسبة إلى كثيرين، من مؤيدي وخصوم "الحزب" على حدّ سواء، يبدو الجواب بالنفي حتمياً، باعتبار أنّ لبنان، من خلال "حزب الله"، يبقى في "قلب الاستهداف"، شاء من شاء وأبى من أبى، علماً أنّ الأخير يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزّأ من محورٍ يمتدّ على كامل المنطقة، من العراق إلى إيران وسوريا، وبالتالي هو لا يمكن أن يحيّد نفسه من أيّ معركةٍ يمكن أن تنشب، وقد سبق لأمينه العام ​السيد حسن نصر الله​ أن أطلق تصريحاتٍ واضحة في هذا السياق، في أكثر من مناسبة.

وإذا كان خصوم الحزب يخشون أن تقرّر إيران الردّ على استهدافها عبر "حزب الله"، وربما من الأراضي اللبنانية، تماماً كما كان يُنسَب لكثيرٍ من المسؤولين الإيرانيّين، فإنّ مؤيّدين للحزب يعتبرون أنّ الشكوى لا يجب أن تكون اليوم من أيّ ردٍ محتمَل، بل من الفعل بحدّ ذاته، وهو فعلٌ يرقى لمستوى "الحرب" على إيران وحلفائها بالجملة، ومن ضمنهم "حزب الله"، وبالتالي أنّ الردّ هو أمرٌ حتميّ وبديهيّ، لا يمكن لهؤلاء غضّ النظر عنه، بمُعزَلٍ عن شكل هذا الردّ وحجمه، والأهمّ عن المكان الذي يمكن أن ينطلق منه، وهو ما يُتوقَّع أن يبقى مفتوحاً، وفق مفاهيم "الحرب النفسية".

وبين هذا الرأي وذاك، ثمّة من يخشى من انعكاسات ما يحصل على المسار السياسيّ، خصوصاً أنّ الواقع اللبناني يبدو مترابطاً بشكلٍ كاملٍ مع الواقع العراقيّ هذه الأيام، وبالتالي أنّ لبنان يشكّل ساحة من ساحات المواجهة الحاصلة هذه الأيام بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهةٍ أخرى، علماً أنّ محاولات توظيف الحراك الشعبيّ الذي يشهده لبنان كما العراق، إضافة إلى إيران، على خطّ "صراع النفوذ" بين واشنطن وطهران، كانت قائمة على قدم وساق، وهو ما كان شديد الوضوح من خلال الكثير من المواقف الرسمية، ولا سيما الأميركية، إزاء التظاهرات في لبنان.

لا "حياد"!

قد لا يكون الحديث عن "حياد" في لبنان إزاء العملية الأميركية مُتاحاً، خصوصاً أنّ لبنان في النهاية ليس جزيرة معزولة عن المحيط والإقليم، فضلاً عن أنّ لمحوري واشنطن وطهران "رجالهم" في لبنان، وكلّ من هؤلاء سيسعى لتغليب وجهة نظره على غيرها.

وتوازياً، قد تكون بدعة "النأي بالنفس" أمام امتحانٍ ربما يكون "الأثقل" خلال الأعوام القليلة الماضية، لأنّ ما حصل جاء مفاجئاً، وهو يمثّل برأي كثيرين أقسى عملية من نوعها يتعرّض لها محور طهران منذ سنوات، ما يجعل فرضية تجاوز ما حصل، شبه مستحيلة.

لكن، بين هذا وذاك، قد يكون مطلوباً من جميع اللبنانيين، مهما اختلفت قراءاتهم لما حصل ولتداعياته على واقعهم الداخليّ، تحصين وحدتهم بشكلٍ أو بآخر، بعيداً عن أيّ استفزازاتٍ متبادلة من شأنها أن تُسقِط ما تبقّى من تفاهمات الحدّ الأدنى، إن بقي منها شيء أصلاً...