أطلق ​لبنان​ وزارة جديدة ل:"مكافحة ​الفساد​"، لكنّ ​الحكومة اللبنانية​ السابقة المستقيلة ألغتها ومثلها ​الحكومة الجديدة​ برئاسة الدكتور ​حسان دياب​. لكن لماذا انبرى ​القضاء​ في معضلة الفساد كما المطر فوق أرضٍ قاحلة.

لأنّ اللبنانيين يحلمون بقاضٍ يحارب الفساد ويعلن ​الجمهورية​ الجديدة الثانية، برز "​نادي قضاة لبنان​" ( 24/2/2020) يطالب بالمساءلة وتكريس دولة القانون، وتقديم الإخبارات بخصوص جرائم الفساد والإثراء غير المشروع. وكأنّ النادي الذي ترأسه القاضية نادية سلامة، ينضمّ إلى أكثريّة اللبنانيين المتخبّطين مالياً وإقتصادياً ونقدياً معتبراً "أنّ الازمات التي يواجهها ​الشعب اللبناني​ وليدة فساد معظم الحكام ومنظوماتهم القضائية والمصرفية والادارية والأمنية وانتفاء أيّة رؤية وخطط اقتصادية هادفة".

ولأنّ اللبنانيين يحلمون بقاضٍ مخلّص، جذبهم النادي القائل بإصدار قانون يجمّد الاصول المنقولة وغير المنقولة لكل المسؤولين عن ​السياسة​ النقدية ضمانة لودائع الشعب اللبناني الذي هو ضحية جشع معظمهم وتواطئهم مع الفاسدين من الطبقة السياسية. ويحمّل النادي، لأوّل مرّة في ​تاريخ لبنان​، الهيئات الرقابية المصرفية، لا سيما هيئة التحقيق الخاصة مسؤولياتها ويوعز بتقديم استقالاتهم اذ لا يمكن ان تمنع الحصانات القانونية التي يتمتعون بها دون مساءلتهم، للإتيان باشخاص أصحاب صدقية وسمعة عالية. وأكثر يحفّزون هيئة التحقيق الخاصة فوراً بالتحقيقات اللازمة في ما يتعلق بحسابات الذين تولّوا الشأن العام وإعلام الرأي العام بالتفاصيل. وكذلك إلزام أصحاب ​المصارف اللبنانية​ بإعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج

ورفع رساميل مصارفهم خلال فترة قياسيّة على ان يتم ذلك من أموال جديدة money) (fresh وليس باستبدال قيود حسابية لا تحقق النتيجة المرجوة. ويعتبر النادي أنّ المحاكم الجزائيّة والنيابات العامّة، وليس المجلس الأعلى ل​محاكمة الرؤساء والوزراء​، مختصة بملاحقة ومحاكمة الوزراء بالجرائم العادية المقترفة خلال ممارستهم لمهامهم، إستناداً لاجتهاد الهيئة العامة ل​محكمة التمييز​ (الصادر بتاريخ ٨/٣/٢٠٠).

ولأنّ لبنان يشبه إيطالية في سرد "ثقافة الفساد"، يعيش ​اللبنانيون​ نشوة التغيير السحري، يستعيدون الفضائح التي هزّت إيطالية في ال 1994 التي دفعت الإيطاليين إلى تسمية عاصمتهم روما بإسمها القديم Tanjintopolli أي "مدينة الرشاوى" وهو ما لم يهزّ زعامة رئيس حكومتهم "ملك الفساد"، ​سيلفيو برلسكوني​ الثري رقم 14 في أنحاء ​العالم​ من العودة إلى الحكم في ال2001 قائلاً بأنّه " ضحّى ويضحّي ويسدي خدمات للشعب و​الدولة​ وهم بحاجةٍ قصوى إليه، وهو بالمقابل ليس بحاجةٍ إلى أيّ منصب أو سلطة". وحتّى عندما طرده الشعب من منصبه بعد خمس سنوات، مثبتاً للعالم الشعار المقدّس بأنّ أضخم الثروات عاجزة ومحدودة في حماية الفاسدين وإبقائهم في مناصبهم، علّق بالحرف الواحد مكابراً، وكان إقتصاد إيطالية ينهار تحت قدميه لتنهار قيادته بعدها:

"إنّ شعوراً أعمق ينتابني بأنّني لست بحاجةٍ إلى الشعب الإيطالي. هو بحاجةٍ إلي وإنّني أقدّم له اليوم بخروجي كما بدخولي إلى الحكم تضحية تاريخية".

ولأنّ اللبنانيين وكأنهم يتماهون بالقضاء الإيطالي، تتشبّث بأحاديثهم اليوم، سيرة القاضي الأربعيني الإيطالي أنطونيو دي بييترو الذي أعلن الحرب على الفساد (1992)، حين اكتشف أثناء إحدى التحقيقات تورط بعض السياسيين في قضايا رشوة. توسّع في التحقيق ليجد نفسه حيال شبكة ضخمة يتورط فيها شخصيات من كل الوظائف والمستويات، وزراء ومدراء شرطة، مدنيون وعسكريون، ديبلوماسيون، رجال أعمال وزوجاتهم وأولادهم وأصهرتهم وأزلامهم .

اتخذ دي بييترو قرارا "انتحاريا" بتوقيف كل المتورطين مهما مناصبهم، وشملت الاعتقالات ٥٠٠٠ شخص بينهم أكثر من ١٠٠٠ من رجال الدولة والسياسة وزراء في الحكومة ثم رئيس الوزراء نفسه برلسكوني الذي هرب بعدها لتونس ليقضى بقية حياته. كان دي بييترو يعي أنه يحارب دولة بأكملها، وقد أضاف لقائمة أعدائه عصابات ​المافيا​ مطلقاً على العملية تسمية "الأيادي النظيفة". هبّ الايطاليون كالمجانين لحجم الفساد وخرجوا في ​مظاهرات​ تدعم دي بييترو وتعتبره بطلا مخلّصاً وأصبح اسمه أغنية الإيطاليين في ملاعب الكرة مع شعار "دي بييترو جعلتنا نحلم"..

تحوّل هذا القاضي أسطورة حية ألهبت جرأته المحللين والكتّاب.

وعندما سئل يوماً كيف قام بتلك "المعجزة" أو هذا "الجنون"، قال أنه اتّخذ القرار وهو يعلم أنه قد يدفع حياته ثمناً لذلك، وأنه اجتمع بمجموعة شباب من نخبة ​الشرطة​ وأفهمهم أن مصير ​إيطاليا​ صار بأيديهم ولا مجال للخوف بعد، فبدأوا بعمليات اختراق واسعة لشبكات الفساد التي دمّرت الدولة من الداخل لذلك يجب تدميرها في الداخل.

قال دي بييترو مرة مازحا :

"يشبه الفساد زواج المصلحة. إذا أفسدنا المصلحة يبطل ​الزواج​ ويصبح الأحبة أعداءً يدمّر بعضهم بعضا. دخل دي بييترو تاريخ إيطاليا ملغياً ​منظومة​ عمرها أربعون سنة وتسبب أيضا في إفناء أحزاب تاريخية، وعلى يديه انتهت الجمهورية الإيطالية الأولى لتعلن الجمهورية الثانية.