مَن يقرأ إنجيلَ يوحنَّا يَكتشفُ وجهًا مختلفًا ويغوصُ في عمقِ اللاهوت. هوَ يأخذُنا مِنْ أولى صفحاتِه برحلةٍ تصاعديّةٍ لولبيّةٍ نحوَ الصليبِ لِنعاينَ بَعدَها مَشهدَ القيامة. أسلوبُه يجعلُنا نُحلِّقُ على أجنحةِ الكلمةِ الإلهيّةِ المتجسّدةِ، فلا عجبَ إنْ لُقِّبَ القدّيسُ يوحنَّا اللاهوتيُّ الإنجيليُّ بالنَّسرِ! وما يزالُ اللاهوتي بامتيازٍ، هو الآتي مِن صيدِ الأسماكِ والذي اتكأَ على صَدرِ الرَّبِّ وغَرفَ مِن حنانهِ ومحبَّتهِ اللامتناهية.

تتخلّلُ رحلةُ إنجيلِ يوحنّا مَحطّاتٍ عِدّة نرى فيها الرّبَ يسوع يَقتحمُ أعيادَ اليهودِ ليعطيها المعنى الحقيقي، فننتقلَ مَعهُ مِنَ الطقوسِ إلى العبادةِ الحقَّةِ المليئةِ بالرَّحمةِ الإلهيَّةِ الممتدةِ إلى الآخر. ويوحنَّا نفسُه هو الذي قال "الله محبّة" وأيضًا "إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟"(١يو ٢٠:٤).

انطلاقًا مِن هذه الآية بالذات ننتقلُ إلى حادثةِ المخلَّعِ التي هي محورُ هذا الأحد. "وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً. هذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعًا" (يوحنا ٥:٥-٦).

لنتوقّف هنا. إنسانٌ طريحُ المرضِ عليلٌ لا أحدَ يأبهُ بهِ. ومَن الذي رآه؟ يسوع. لا أحد غيره. عجيبٌ هذا الأمر، مع أنّه كان مُلقًا عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ على حافةِ بِرْكَةٍ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا». "الضأن" هو الغنم، و"حِسْدَا" تعني الرحمة.

ثمانٌ وثلاثونَ سنةً ولم يجد هذا المخلّع مَن يعطيه رحمةً! والصلواتُ خلفهُ في الهيكلِ لا تتوقف، ورائحة ُالبخورِ ترتفعُ معَ الذبائحِ المقدَّمةِ لله! مع العلم أنَّ باب الضأن هو مِن أبوابِ سورِ مدينةِ أورشليم، وبجانبه الحظيرة التي كانت تُحفَظ فيها الخِراف لتُقدَّمَ ذبائحَ في الهيكل تكفيرًا عن الخطايا. كما يُقالُ إنَّ الكهنة َكانوا يغسلونها هناك.

طقوسٌ تلوَ الطقوسِ، دفٌّ وكنَّارةٌ، أبواقٌ، ترانيمٌ وألحانٌ ومزاميرٌ تُتلى، كتبةٌ وفريسيونٌ وكهنةٌ ورؤساءُ كهنةٍ وغيرهم، ونعجةُ يسوع لا أحدَ ينظرُ إليها، كأنَّ هذا المخلَّعَ غيرُ موجودٍ إلَّا في وجعهِ.

ويأتي يسوع ويراه. فبمجرّد أن رآه شُفيَ. لأن مِن المستحيلِ أن يراه الرّبُ ولا يشعرُ بألمه ووحدته وعذابه. فإذا بولس الرسول قال: "مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟" (٢ كورنثوس ٢٩:١١)، فكيف بالأحرى الخالق الذي تجسَّدَ وصارَ بشرًا مِن أجلنا ؟!.

هذه هي مصيبتُنا اليوم، معظمُ حواسِّنا الخمس معطّلةٌ، والنَّظرُ إحدى هذه الحواس. نرى ولا نبصر! أو بالأحرى ما يجبُ أن نلتزمَ بهِ لا نريدُ مشاهدتَهُ.

أخذ الرَّبُ المبادرةَ كعادتهِ واقتحم وِحدةَ هذا المخلَّعِ وسأله إن كان يريد الشفاء. هو طبعًا يريدُ الشفاءَ، ولا داعي لأن يسأله، وكان يمكن أن يشفيه دون أن يطرح عليه هذا السؤال. ولكن، سؤاله له اعترافٌ بوجعِ المخلَّع. وكأنّه بذلك يقول له: أنا أشعرُ بألمكَ، ووجعُكَ هو وجعي، هيَّا، ألا انتهينا مِن هذه الحالةِ المَرَضِيّة ِالمزمنةِ، لتقومَ وتجريَ إلى حياةٍ جديدةٍ؟.

هذا بالضبط ما نُصلِّيهِ في هذا الأحد: "لنفسيَ، المخلَّعة جداً بأنواع الخطايا والأعمال القبيحة، أنهضْ يا ربُّ بعنايتكَ الإلهيَّةِ، كما أقمتَ المخلَّعَ قديمًا. حتى إذا تخلّصتُ ناجيًا أصرخُ: أيّها ​المسيح​، المجدُ لعزَّتكَ".

كم مِن خطيئةٍ معشعشةٍ في داخلي جعلتني مخلَّعًا عاجزًا عنِ النهوض؟ إذا كانتِ النفسُ مريضةً وترزحُ تحت ثِقلِ الخطايا، يكونُ الجسدُ مخلّعًا لا محالة، وإن سارَ على قدميه.

لقاءُ الرَّبِ بالمخلَّعِ أنهى سنواتٍ طوالَ مِن العجزِ. النورُ يسطعُ ويبدِّدُ الظُّلْمةَ بسرعةٍ تفوقُ الوصفَ. هكذا يحصلُ عندما نلتقي المخلِّصَ، فلا شيءَ ميؤوسٌ منهُ أمامَ الرَّبِّ.

فإن تكلَّمَ الإنجيلُ هنا عن ملاكٍ كان ينزلُ ليحرِّكَ الماءَ، ومَن ينزلُ أوّلًا يبرأُ، نرى بالمقابلِ أنَّ اللهَ بنفسهِ نزلَ ليشفيَنا. أتى لكي يحرّكَنا مِنَ الدَّاخلِ، فلا تتجمَّعُ الأوساخُ في نفوسنا ويصيبُنا العفن.

ولكن مهلًا، فهناكَ مَن يقولُ للسيّدِ، لا، لا أريدُ أن أبرأَ، وساختي تجني لي أرباحًا. لكن هل نتذكَّرُ قولَ الرَّبِّ "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟". الرَّبُّ ينتظرُ قرارَنا!.