إِنّ ما يزيد في سوء الأَزمة المائيّة في ​لبنان​، هو كون تحديث هذا القطاع، لا يتمّ مِن دُون إِدخال الشّراكة مع القطاع الخاصّ. فمِن أَين يكون للبنان هذا، والقطاع الخاصّ فيه ينسحب تردّيه على القطاع العامّ... وأَمّا قُروض إِشادة السُّدود المائيّة بتمويلٍ دوليٍّ –وإِن تمّ التّوصُّل إِليه بعد جُهدٍ جهيدٍ– فتُطيح به المُناكفات، وتحريك الشّارع اعتراضًا على خلفيّةٍ سياسيّةٍ في الجوهر، وحججٍ بيئيّةٍ في الشّكل!.

وخيرُ مِثال على ذلك، سدّ بسري، الّذي كان يهدف إِلى زيادة حجم ​المياه​ المُتاحة لمنطقة ​بيروت​ الكُبرى و​جبل لبنان​، حيث يعيش حوالي نصف سُكّان لُبنان. وكان تمويل المشروع على عاتق البنك الدّوليّ والبنك الإِسلاميّ للتّنمية والحُكومة اللبنانيّة، غير أَنّ الكيديّة السّياسيّة حرّضت النّاس للتّظاهر ضدّ المشروع لذريعةٍ تتعلّق ب​البيئة​، إِلى أَن توقّف المشروع، وفي اعتقاد المعرقلين أَنّهم سجّلوا نقطةً سياسيّةً، وهم لا يدرون أَنّهم بذلك إِنّما يلحسون المبرد، أَو بالأَحرى يجعلون الشّعب مجتمعًا يلحسه!...

وكان ساروج كومار جاه، المُدير الإِقليميّ لدائرة الشّرق الأَوسط في "البنك الدّوليّ"، شرح أَهميّة مشروع سدّ بسري لحلّ مُشكلة نقص المياه الّتي طال أَمدُها في بيروت... فسدّ بسري كان سيحلُّ مُشكلةً رئيسيّةً يُواجهها سُكّان لُبنان مُنذ الحرب اللبنانيّة، وهي النّقص الحادّ والمُزمن في المياه. فأَكثر مِن 1.6 مليون شخص يعيشون في أَنحاء بيروت الكُبرى وجبل لُبنان، بينهم أَكثر مِن 460 أَلفًا يعيشون على أَقلّ من 4 دولارات في اليوم (حتَّى 5 آب 2019، حين كان سعرُ صرف الدُّولار مُقابل اللّيرة اللُّبنانيّة، لا يزالُ 1500 ليرة، وبالتّالي فمِن المُؤَكّد أَنّ عدد هؤُلاء القابعين تحت خطّ الفقر، قد تضاعف مع انهيار اللّيرة، الّتي باتت في السّوق السّوداء على أَعتاب التّسعة آلاف ليرة لبنانيّة للدُّولار الواحد)، وقد كانت المياه النّظيفة ستتوفّر لهؤُلاء لو لم يُلغَ المشروع المائيّ.

ولو وصل المشروع إِلى خواتيمه، لكانت هذه الأُسر ستتمكّن من الاعتماد على شبكة المياه العامّة، ولن تعود في حاجةٍ إِلى مصادر المياه البديلة. ومن ثمّ فسيشهدون تخفيضاتٍ كبيرةً في إِنفاقهم على المياه.

ولو لم يُعرقل المشروع، كان سدّ بسري سيجمع مياه الأَمطار الّتي عادةً ما تذهب هدرًا إِلى البحر، وسيسمح للُبنان بتخزين المياه في فصل الشّتاء لاستخدامها خلال موسم الجفاف، حين تشتدُّ حاجة النّاس إِلى المياه، إِذ كان سيُخزّن 125 مليون متر مُكعبٍ، تُملأ في شكلٍ طبيعيٍّ، ومِن دون الحاجة إِلى عمليّات ضخٍّ. وكانت المياه ستتدفّق إِلى منطقة بيروت الكبرى وجبل لُبنان، عن طريق الجاذبيّة، وستمرُّ عبر نفقٍ تحت الأَرض، يبلغ طوله 26 كيلومترًا، حيث تجري مُعالجتها في محطّة التّكرير في الوردانيّة، قبل توزيعها عبر الشّبكات، الّتي كان بدأ العمل على إِصلاحها ضمن "مشروع إِمدادات المياه في بيروت الكُبرى".

كما وأَن الحُكومة اللُّبنانيّة صمّمت سدّ بسري وَفقا لأَحدث تقييمٍ وتصميمٍ للمخاطر الزّلزاليّة، بحسب ما أَكّد ساروج كومار جاه، فيما أَكّد خُبراء فنيّون دوليّون، أَنّ سدّ بسري مُصمّمٌ لمُقاومة أَقوى الزّلازل، وهو لن يُؤدّي في حدّ ذاته إِلى التّسبُّب بها. إِضافةً إِلى ذلك، فقد كان مِن المُقرّر أَن يتمّ تزويد ​سد بسري​ بأَدوات رصدٍ للزّلازل لمُراقبة هيكل السّدّ والتّغييرات الجيولجيّة في شكلٍ مُستمرٍّ.

مَسار المياه

ولو لَم يُلغَ المشروع، كانت المياه المُتدفّقة من سدّ بسري، ستصلُ إِلى بُحيرة جون الّتي ستُملأ من مصادرَ مُختلفةٍ، وهي: مياه نهر الأَوّلي (المُخزّنة في بسري) وينابيع عين الزّرقا وجزّين وبُحيرة ​القرعون​. وكانت مياه بُحيرة جون ستُعالج في محطّة الوردانيّة المُتطوّرة، على بُعد 30 كيلومترًا جنوب بيروت. وعندها ستتدفّق المياه المُعالجَة، من خلال الأَنابيب إِلى نظام توزيع المياه "المُحسَّن" لمنطقة بيروت الكُبرى وجبل لبنان، بما يكفل إِمدادات مياهٍ ثابتةً وموثوقةً. وبذلك ستُصبح المياه صالحةً للشّرب وهي تستوفي معايير الشّرب اللُّبنانيّة (LIBNOR NL 161) و/أَو معايير الاتّحاد الأُوروبيّ (98/83(EC الأكثر صرامةً، وبشهادة التّقرير رقم 71 الصّادر عن "لجنة التّفتيش" التّابعة للـبنك الدّوليّ.

إِرادة التّعطيل أَقوى!

ومع أنّ تصميم المشروع إِنّما تمّ وَفقًا لأَفضل المُمارسات الدّوليّة للحدّ مِن التّأثيرات على المُجتمعات المحليّة، وعلى رُغم أَنّ مَن سيتأثَّرون في المشروع، تمّ أَخذُهم في الحسبان، فوضِعت تدابير لضمان استمرار مصادر عيشهم ومعالجة مخاوفهم... غير أَن إِرادة تعطيل مشروع سدّ بسري كانت الأَقوى!. وقد كان سيتمّ منح مالكي الأَراضي تعويضاتٍ نقديّةٍ محسوبةٍ بتكلفة الاستبدال، وَفقًا لسياسات البنك الدّوليّ. كما وكانت ستُقدّم مساعداتٌ إِضافيّةٌ للمُساندة في استعادة الدّخل وإِعادة تأهيل سُبل العيش، بحسب الحاجة.

هي سياسة "لحس المبرد"، وبدلًا مِن أَن نرتوي من مياهٍ عذبة بمعايير دوليّة من "الحنفيّة" مباشرةً إِلى كُؤوسٍ مِن البلّور... يبدو أَنّنا سنرتشفُ دماءَنا بفناجين القهوة، صباحًا، قبل توجّهنا إِلى أَعمالنا، الّتي باتت أَعمال سُخرةٍ!.