لم يقرر الرئيس المكلف ​سعد الحريري​ الاعتذار بعد، ولكن صار واضحاً انّ أرضية التكليف تهتز تحت قدميه. صحيح ان التكليف لم يقع حتى هذه اللحظة، إلا انه وللمرة الأولى منذ تسمية الحريري بدأ يترنّح، فهل يُرمم من جديد؟ ام انه آيل الى السقوط، ولو بعد حين؟

لم يستسلم رئيس تيار «المستقبل» حتى الآن، بل لا يزال يقاوم محاولات دفعه الى الخروج من الباب الخلفي ل​رئاسة الحكومة​، الا انّ هامش المناورة لديه أصبح ضيقاً وصار ملزماً بأن يحسم خياره ووجهته قريباً.

اراد الحريري ان يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه تغيّر حقاً، ولم يعد يتقبل ولا يتحمل تقديم التنازلات والانخراط في اي تسوية كانت. هذه المرة، حاول ان يتحكم بقواعد الاشتباك والتفاهم مع الرئيس ​ميشال عون​ والنائب ​جبران باسيل​، فصمد في مواقعه الامامية وقرر أن لا يصرخ أولاً مهماً اشتد عض الأصابع وطال الانتظار، مُفترضاً ان الظروف الداخلية والخارجية مؤاتية له أكثر من أي وقت مضى حتى يعود إلى السلطة أقوى مما كان عليه عند خروجه منها بعد انتفاضة 17 تشرين.

ولعل الحريري مقتنع بأنّ الأمر يحتاج فقط إلى بعض الصبر الذي هو سلاح استراتيجي لم يكن يجيد استخدامه من قبل، ويبدو انه تدرّب على استعمال تقنياته تحت وطأة التجارب التي خاضها.

في المقابل، هناك من يعتبر ان الحريري أخطأ في حساباته وتكتيكاته بعدما ذهب بعيداً في العناد السياسي، وحتى الشخصي احياناً، ما أفقده في الفترة الأخيرة جزءاً من التعاطف المحلي والخارجي معه، بينما كان عليه ان يعرف متى يلين ويتعاون بمقدار ما عرف كيف يتصلب ويتشدد في النزاع مع عون وباسيل، إذ وكما يوجد توقيت جيد للمواجهة يوجد أيضاً توقيت جيد للتنازل. المهم ان يكون في أوانه، لا قبله ولا بعده.

وغالب الظن انّ رئيس الجمهورية ورئيس «التيار الوطني الحر» اللذين واجها في أصعب الأوقات الضغوط السياسية والاتهامات بعرقلة ​تشكيل الحكومة​، لن يتراجعا الى الخلف حين تقلّص الغطاء الاقليمي والدولي الذي كان ممنوحاً للحريري، وما البرودة الفرنسية حياله بعد رفضه الاجتماع مع باسيل في ​باريس​ سوى إحدى علامات الواقع المستجد. وبناء عليه، ينظر عون وباسيل الى الرئيس المكلف في اعتباره بات حالياً أضعف من ان يفرض شروطه وإيقاعه عليهما، وما كان مرفوضاً منهما سابقاً لن يغدو بطبيعة الحال مقبولاً الآن.

ومع ان الحريري لا يزال يتمسك بالمبادرة الفرنسية معتبرا انها «حيّة ترزق»، الا انّ كل المؤشرات تدلّ الى ان باريس نفسها فقدت حماستها لها وشهيتها عليها، وانّ خيار معاقبة المعرقلين، لا محاورتهم، بات يتقدم لديها على ما عداه. اكثر من ذلك اختارت باريس، عبر لقاء وزير خارجيتها مع ممثلي عدد من مجموعات الحراك، ان توجّه رسالة إلى من يهمهم الأمر بأنها في طور فك ارتباطها بالتركيبة السياسية التقليدية لمصلحة تعزيز دور او حضور ما تفترض انها «قوى تغييرية» يمكن ان تساهم في صنع البديل والفارق في ​الانتخابات النيابية​ المقبلة.

الا انّ احد السفراء الاوروبيين نصح السفيرة الفرنسية في ​بيروت​ ​آن غريو​ بأن «لا تعوّلوا كثيراً على دور مجموعات ​الثورة​. انتم تعرفون، ونحن أيضا، انهم يحتاجون لكي يفوزوا في الانتخابات المقبلة، ليس فقط الى ​قانون انتخاب​ جديد بل الى قانون يسمّيهم بالاسم ويعيّنهم تعييناً في الدوائر».

بناء على كل هذه الوقائع، هل أصبح اعتذار الحريري حتمياً ام لا يزال في الإمكان تفاديه؟

بالنسبة إلى الحريري، فإنّ موافقته أصلاً على تشكيل الحكومة هي مغامرة بل تضحية، لأن الأزمة معقدة ومعالجتها ليست مضمونة، وقد تنفجر بين يديه لاحقاً بحيث يدفع ثمنها مجدداً كما دفعه بعد انتفاضة تشرين 2019.

بهذا المعنى، يشعر الحريريون انّ الإقامة في السلطة لم تعد تشريفاً ولا وجاهة في عصر الانهيار المتدحرج، بل قد تكون محرقة وورطة، ولذلك يجب أن يُسجل لرئيس «المستقبل»، في رأيهم، انه لم يَتهيّب الموقف ولم ينكفئ عن المشاركة في تحمل مسؤولية الإنقاذ، فإن نجح يربح البلد وأيضاً العهد، وإن أخفق سيقع عليه كرئيس للحكومة العبء الأكبر ووزر الفشل، وهذا ما يفسّر إصراره على أن تتوافر في ​الحكومة الجديدة​ شروط الانتاجية.

من هنا، يتكون تدريجاً لدى بعض الحريريين اقتناع بأنه اذا كان عون وباسيل لن يسهّلا مهمة الرئيس المكلف ولن يوفرا لها متطلبات نجاحها، فالأفضل له ان يعتذر ويترك العهد وتياره يتخبّطان وحدهما في مستنقع الازمات المتفاقمة في الجزء الأخير من الولاية البرتقالية، على أن يتفرّغ الحريري في هذه الاثناء لخوض الانتخابات المقبلة والاستعداد لمرحلة ما بعد انتهاء ولاية عون.

إنما هناك رأي آخر يلفت أصحابه الى انه ليس سهلاً على الحريري ان يعتذر، لأنّ مثل هذا القرار قد يكون انتحاراً سياسياً له، إذ انّ فقدانه الحصانة المُستمدة من السلطة، وكذلك من الدعم السعودي والفرنسي، قد يؤدي إلى انكشافه سياسياً وتحجيم موقعه في المعادلة الداخلية، الأمر الذي من شأنه ان يفيد منافسيه على الساحة السنية، من داخل العائلة الى البيئة الأوسع.

والاعتذار سيبدو أيضاً هزيمة للحريري أمام عون وباسيل اللذين يسعيان بكل الوسائل الى انتزاع التكليف منه واستبداله بإسم آخر، بينما هو لم يعد يتحمل مزيداً من النكسات السياسية، خصوصاً أن اي تراجع إضافي قد يتسبب في تجدد عوارض الاحباط لدى شريحة واسعة من ​الطائفة السنية​، وصولاً الى انخفاض منسوب التأييد للحريري.

ثم انّ الحريري يشكل خط دفاع متقدماً عن ائتلاف سياسي ربما تُفرّقه بعض الخيارات لكن يجمعه الاعتراض على سلوك رئيسَي الجمهورية و»التيار» في عدد من الملفات الحيوية، وبالتالي فإنّ الاعتذار ليس ملك الحريري وحده.

وربطاً بهذه العوامل المتداخلة، تلفت إحدى الشخصيات السنية الى انّ الحريري قد يعتذر في حالة واحدة وهي «الحصول على ضمانات بخروج آمن».