رغم كلّ الانتقادات التي طالت مؤتمره الصحافيّ الأخير، وما تضمّنه من رسائل "مزدوجة"، وربما "ملغّمة" وفق ما اعتبر كثيرون، يبدو أنّ رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​ نجح في "تحريك" المياه الراكدة، وأعاد "الديناميكية" إلى الاتصالات السياسيّة، بعد "جمود" سيطر عليها في المرحلة الأخيرة.

جاء ذلك على خلفيّة الكلام الذي توجّه به باسيل إلى الأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​، مؤتمِنًا إيّاه على "الموقف"، ومرتضيًا "سلفًا" بما يقبل به لنفسه، في رسالةٍ اختلفت قراءاتها حدّ التناقض، بين من قرأ فيها "إيجابية" يُبنى عليها، ومن لم يجد فيها أكثر من "محاولة إحراج"، معطوفة على "امتعاض" من موقف "الحزب" الرماديّ.

وإذا كان رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ اكتفى بعبارة "بتعقّد" في إطار تعليقه على كلام باسيل "الأخير"، وفق وصفه، في ملفّ الحكومة، فإنّ اتصالاتٍ بين "الحزب" و"التيار" بدأت في الساعات الأخيرة، في مسعى لـ"ترجمة" موقف رئيس "التيار" المُستجِدّ، وإن انطلقت من مبدأ "الاستفسار والاستعلام"، بعيدًا عن المواقف الإعلاميّة.

فهل فتح باسيل كوة في جدار الأزمة الحكوميّة بموقفه هذا، وأعاد "الحياة" إلى مبادرة رئيس البرلمان، ولو كان ذلك بصيغةٍ وشروط جديدة، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه "مناورة" أريد منها توجيه رسالة إلى "حزب الله"، وقد وصلت، رغم كلّ ما قيل ويُقال؟!.

تفسيرات "متناقضة"

منذ المؤتمر الصحافي لباسيل يوم الأحد الماضي، لا يزال "مضمونه" يخضع حتى الآن للتدقيق والتحليل والتمحيص، وسط تفسيرات "متناقضة" للرسالة التي وجّهها إلى "حزب الله"، في ظلّ تساؤلات طرحها بعض خصومه، حملت بين طيّاتها "تشكيكًا" بمدى جدّية الوزير السابق بقبوله فعليًا بما يرتضي به نصر الله.

بين التفسيرات ثمّة رأي إيجابي، يقارب حديث باسيل بحرفيّته، فيصبغه بأبعاد "ودّية"، باعتبار أنّ الرجل أغدق بالثناء على الأمين العام لـ"حزب الله"، مرطّبًا الأجواء معه بعد "نفور" أحدثته الجماهير "العونيّة" في الآونة الأخيرة، علمًا أنّ "ثقته" به انقلبت عليه في الشارع المسيحيّ، حيث تعرّض لحملة انتقادات عنيفة وواسعة، استهجنت كيف يمنح راية معركة بعنوان "حقوق المسيحيّين"، للسيد حسن نصر الله.

لكن، مقابل هذا التفسير، ثمّة تفسيرات أخذت مدى أوسع في الإعلام، انطلقت من "خبث" النوايا، إن جاز التعبير، لتخلص إلى أنّ كلام باسيل لم يكن في حقيقة الأمر سوى "محاولة إحراج" للأمين العام لـ"حزب الله"، لدفعه لاتخاذ موقف واضح من الملفّ الحكومي، بدل البقاء في الخانة "الرماديّة"، من خلال "تأييد" رئيس الجمهورية ورئيس "التيار" من جهة، وفي الوقت نفسه، التمسّك برئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​، مرشّحًا وحيدًا وفريدًا لرئاسة الحكومة.

ولعلّ ما يعزّز هذا الاعتقاد، أنّ "شكوكًا" أحاطت بنوايا باسيل فعليًا، حيث لم يتردّد خصومه في المقارنة بين ما يطلبه لنفسه، وما فعله نصر الله في المقابل لتسهيل التأليف في أكثر من محطّة. ويلفتون إلى أنّ باسيل يعطّل الحكومة مثلاً من أجل حقيبة من هنا أو هناك، ويريد أن يملك حق "الفيتو" على بعض الحقائب، في حين أنّ نصر الله لم يسأل أصلاً عن نوع الحقائب الممنوحة له، ولم يشترط سوى حصول حليفه رئيس مجلس النواب على حقيبة المال.

أما بالنسبة إلى المنطق "الطائفيّ"، فيذكّر هؤلاء بخطوة نصر الله وبري القاضية بالتخلّي عن وزير شيعي في مرحلة من المراحل، من أجل توزير حليف سنّي، فكان أن تمّ توزير سنّي ضمن "الحصّة الشيعية"، فهل يرتضي باسيل بمثل هذا السيناريو من أجل تسهيل ​تأليف الحكومة​ طالما أنّه يقبل بما يقبل به نصر الله وفق ما قال في مؤتمره الصحافي؟.

"النيّة الحَسَنة" أولاً!

لا شكّ أنّ ما قصده باسيل في مؤتمره الصحافي لم يكن هذا البعد، بل ربما يكون أقرب إلى الدعوة لمقاربة معركة "​حقوق المسيحيين​" بالأهمية الاستراتيجية لمعركة "​سلاح المقاومة​" بالنسبة إلى "حزب الله"، بمعنى أنّ التنازل على خطّها مرفوض جملةً وتفصيلاً، لما له من انعكاسات سلبيّة على الوضع العام، في المديين القصير والمتوسّط.

في مطلق الأحوال، فإنّ "حزب الله"، وفق ما يؤكد بعض المقرّبين منه أو العارفين بأدبيّاته، لم يلتفت إلى كلّ ما يُقال ويُنسَج من روايات حول "مقاصد" باسيل، وهو لذلك التزم بالصمت، ولم يعلّق على الطرح إيجابًا أو سلبًا، بالتوازي مع "تنشيط" اتصالاته مع الجانب المعنيّ، في محاولات لاستكشاف سُبُل "ترجمة" الكلام المستجد، وإن كان يمكن أن يكون "مَدخَلاً" لإعادة تحريك المياه الراكدة حكوميًا.

بمعنى آخر، يقول العارِفون إنّ "الحزب" قرّر التعامل مع طروحات باسيل انطلاقًا من "النيّة الحسنة" التي يغلّبها على كلّ ما عداها من اعتبارات، أولاً لأنّه "راغب" بتحقيق "خرق ما" من شأنه تسريع تأليف الحكومة التي يحتاجها البلد، في ظلّ التحذيرات المتتالية من "انهيار شامل" بدأت مؤشّراته بالظهور، وثانيًا نظرًا لحرصه على استمرار العلاقة مع رئيس الجمهورية، وباسيل من خلفه، استنادًا إلى "تفاهم مار مخايل" الجديد.

ويشدّد هؤلاء على أنّ الحزب لا يزال مقتنعًا بأنّ مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري تشكّل "فرصة حقيقيّة" للخرق المطلوب حكوميًا، وهو يسعى من خلال الاتصالات التي يجريها مع الوزير باسيل أو غيره، لإعادة "تفعيل" هذه الوساطة، ولو أنّها تعرّضت لبعض "الخدوش" بفعل الخلاف بين عون وباسيل، وصولاً لحدّ "تحجيمها" من قبل باسيل في مؤتمره الصحافي الأخير، باعتبارها مجرّد جهد "مشكور"، ونقطة على السطر.

"مصير محتّم"

لا تعليق رسميًا من جانب "حزب الله" على مواقف باسيل، ولا ردّ صريحًا من الأمين العام لـ"حزب الله" على الدعوة المباشرة التي وجّهها له باسيل، في سياق "آخر كلام" له في الملفّ الحكوميّ على حد ما قال.

قد لا يكون ذلك مفاجئًا للعارفين بأدبيّات "حزب الله"، رغم كلّ التفسيرات والتفسيرات المضادة التي أعطيت لكلام باسيل، والتي تحتمل الكثير من الواقعية وفق ما يؤكّد المتابعون، خصوصًا أنّ العلاقة بين الجانبين بدت في الآونة الأخيرة أكثر من "ملتبسة" لعدّة أسباب واعتبارات.

ربما أراد باسيل "إحراج" الحزب، وربما نجح الحزب في إبعاد "كرة النار" عنه، "متلقّفًا" الرسالة بإيجابية، ولكن، هل يمكن "الرهان" فعلاً على وساطة مستجدّة، ملحقة بتلك التي يقودها برّي، بعد "سوق عكاظ" البيانات النارية المتبادلة الأخيرة؟.

قد تكون الإجابة الأقرب إلى الواقع هي النافية، في ضوء "التناقضات" التي يبدو أنّ "مصيرها المحتّم" يبقى في تلاقيها الذي يبدو "مستحيلاً" حتى إشعار آخر، إشعار لا يدرك أحد كيف "سيهبط" على المسؤولين، المستمرّين بسياسة "رفع السقف"، وكأن لا انهيار ولا من يحزنون!.