لم يتصدّر "التحليق الجنونيّ" ل​سعر الدولار​ صدارة الاهتمامات في الساعات الماضية، بعدما أصبح الأمر "مألوفًا واعتياديًا"، رغم انعكاساته الكارثيّة والدراماتيكيّة على حياة اللبنانيّين، ومثله لم تستحوذ أزمة المحروقات على الاهتمام، رغم إقفال معظم ​محطات الوقود​ أبوابها من جديد، في مشهدٍ بات "مستهلَكًا"، مع كلّ ما ينطوي عليه من "إذلال" للمواطنين.

كان كلّ الاهتمام منصبًّا في مكان آخر، حيث اتّجهت كلّ الأنظار إلى ما يمكن وصفه بـ"حراك السفيرتين"، في إشارة إلى التحرّك غير المسبوق الذي تصدّت له السفيرتان الفرنسيّة والأميركيّة في بيروت، ​آن غريو​، و​دوروثي شيا​، اللتان انتقلتا إلى العاصمة ​السعودية​ الرياض لبحث الأزمة اللبنانية بكلّ تشعّباتها وفروعها مع المسؤولين هناك.

وفي حين وُصِفت هذه الزيارة من وكالات الأنباء العالمية بأنّها "خطوة غير مألوفة"، فإنّ "السابقة الدبلوماسيّة" بدأت قبلها، وفق ما يرى كثيرون، وتحديدًا عندما جمع رئيس حكومة تصريف الأعمال ​حسان دياب​ السفيرتين غريو وشريا، مع سائر السفراء وممثلي البعثات الأجنبية في لبنان، "شاكيًا" الأحوال التي وصلت إليها البلاد.

يومها، كانت سفيرتا باريس وواشنطن لدياب بالمرصاد، فردّتا بعنف كما لم يسبق أن فعلتا في مواجهة رئيس سلطة تنفيذية، ما "أحرج" دوائر السرايا، التي قطعت البث المباشر للمؤتمر، ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام عن طبيعة "حراك السفيرتين"، وما إذا كان يمكن البناء عليه حقًا، والرهان على قدرته على التأسيس لـ"خرقٍ" ما في المشهد المتأزّم.

زيارة استثنائيّة

لا شكّ أنّ زيارة السفيرتين الأميركية والفرنسيّة إلى الرياض تحمل أهمية استثنائية، أولاً من حيث الشكل، لا سيما بعد كلّ ما قيل في الآونة الأخيرة عن "إقفال" المملكة العربية السعودية أبوابها في وجه المسؤولين اللبنانيين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​، "ابنها المدلّل" سابقًا، والذي تشير الكثير من الأوساط إلى أنّ "الفيتو" السعودي هو ما يحول دون تأليفه الحكومة، بعيدًا عن كلّ ما يروَّج خلافًا لذلك.

وتتعزّز الأهمية مع تأكيد الأوساط السياسية المتابعة أنّ هذه الزيارة تأتي استكمالاً للاجتماع الثلاثي بشأن لبنان الذي عقد أخيرًا بين كلّ من وزير الخارجية الأميركي ​أنتوني بلينكن​ ووزير الخارجية الفرنسي جان- إيف لودريان ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود، وبالتالي في سياق "التنسيق" الذي اتّفقت عليه الدول الثلاث في سبيل "دعم الشعب اللبناني" في مواجهة الظروف الصعبة والخطيرة التي يمرّ بها.

ولعلّ ما ورد في بياني السفارتين الأميركية والفرنسيّة عشيّة الزيارة يعزّز هذا المنحى، حيث أمكن "استنتاج" مسارَين متّصلين منفصلين، إن جاز التعبير، تتركّز عليهما، أولهما الملفّ الحكوميّ، في ظلّ الحديث عن "رغبة فرنسا والولايات المتحدة في العمل مع شركائهما الإقليميين والدوليين، للضغط على المسؤولين عن التعطيل"، وفق ما ورد بالنصّ الحرفيّ.

أما الملفّ الثاني فيأخذ بُعدًا إنسانيًا، ويعتبر البعض أنّه قد يشكّل "الخطة باء" في حال العجز عن تحقيق أيّ تقدّم على صعيد البند الأول، ويتجلّى بتأكيد المعنيّين على وجوب تأمين المزيد من المساعدات الإنسانية للشعب اللبنانيّ، إضافة إلى زيادة الدعم للجيش والقوى الأمنية، وهو ما يصرّ عليه الجانب الأميركيّ تحديدًا، وقد برز في أكثر من مناسبة مؤخّرًا.

رهان جدّي أم "وهم"؟

وفي وقتٍ قد تحتاج الزيارة لبعض الوقت لقراءة نتائجها، ثمّة من يعتقد أنّها "حُمّلت أكثر ممّا تحتمل"، ولو أنّها قد تشكّل "تقدّمًا" بالدرجة الأولى، لناحية دفع السعودية إلى الانخراط في الملفّ اللبناني، رغم كلّ "التحفّظات"، لا سيّما وأنّ الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ سعى مرارًا لإقناع الرياض بلعب دور جوهريّ في لبنان، في محاولة لـ"إنقاذ" مبادرته التي أصبحت "في خبر كان" من دون أن تجدي محاولاته.

لكن، هنا أيضًا، ثمّة من يعتقد أنّ "الرهان" على "تحوّل جذري" في المقاربة السعودية للأزمة اللبنانية قد يكون مُبالَغًا به، بل مجرّد "وهم" إن جاز التعبير، لأنّ السعودية التي تتعامل مع ​الحكومة اللبنانية​ بمنطق "التجاهل والتطنيش" منذ أشهر، قد لا تكون جاهزة لإبداء أيّ "انفتاح"، بعيدًا عن الشعارات والبيانات، خصوصًا أنّ "مشكلتها" مع الحريري باتت واضحة، بعدما رفضت التجاوب مع كلّ الوساطات لتأمين "موعدٍ"، ولو رمزيّ، له في الرياض.

ولا يعزل البعض "حراك السفيرتين" عمّا بدر عنهما في المؤتمر الصحافي لرئيس حكومة تصريف الأعمال أخيرًا، حيث اعترضتا على تصوير الأخير وكأنّ المشكلة في الغرب الذي "يعاقب" الشعب اللبناني، في حين أنّه بادر في الفترة الماضية، ودون طلب من أحد، لتقديم المبادرات، فرادى أو جماعات وبالتنسيق فيما بينهم، في حين لم يقم القادة في لبنان بما عليهم من مسؤوليات في المقابل، عملاً بمقولة الفرنسيّين الشهيرة "ساعدونا لنساعدكم".

وفي مُطلَق الأحوال، يعتقد كثيرون أنّ هذا "التنسيق" سترتفع وتيرته في المرحلة المقبلة، ولو لم يُفضِ إلى "نتائج كبرى"، كما هو مرجَّح، لأنّ الدول الثلاث أصلاً لا تريد وفق ما تقول أن تحلّ مكان القادة السياسيين في لبنان، ولكنّها في الوقت نفسه، تتّفق على أنّ "لا مصلحة" لها بـ"الانهيار الكامل" في لبنان، والذي قد يكون عليها أن تدفع جزءًا غير يسير من "فاتورته"، وبالتالي فقد يكون مطلوبًا منها تنسيق تدخّلات موضعيّة ومحدودة، وفق منطق "الحدّ الأدنى".

"جدل" حراك السفيرتين

حين تصدّت السفيرة الفرنسية لرئيس حكومة تصريف الأعمال، تعرّضت لانتقادات شتى، إذ إنّ كلامها بدا بعيدًا عن اللياقات والأعراف الدبلوماسيّة، خصوصًا بمخاطبة رئيس السلطة التنفيذية، وذهب البعض لحدّ التساؤل عمّا إذا كان أيّ دبلوماسيّ يرتضي أن يتوجّه بمثل هذا الكلام القاسي والعنيف في أيّ دولةٍ أخرى.

بعدها بساعات، جاء الإعلان عن الزيارة إلى السعودية ليثير جدلاً واسعًا في الداخل اللبناني، حيث برز فريق اعتبر أنّ الأمر يفرّغ الدبلوماسية من مضمونها، ويحوّل السفيرتين إلى "لاعبتين سياسيتين"، بل هناك من اتهمهما بممارسة "انتداب غير مُعلَن" على اللبنانيين، من خلال "تدخّلهما الفجّ" في الشؤون الداخلية.

لكنّ وجهة النظر هذه اصطدمت بأخرى تستهجن "التناقض" في المقاربات، فكيف يجمع رئيس حكومة تصريف الأعمال السفراء وممثلي البعثات ليطالبهم بالتدخّل، ثمّ يخرج ضمن الفريق الذي يُحسَب الرجل عليه، من "يصوّب" على السفراء، لأنّهم امتثلوا لـ"التوصية"، بمُعزَل عن النوايا الحقيقية، بريئة كانت أم غير ذلك؟.

في مطلق الأحوال، قد يكون مثل هذا الجدل "البيزنطي" صحيًا ومحمودًا في الظروف الطبيعيّة والعاديّة، لكنّه لا يمكن إلا أن يكون "التهاء بالقشور" في بلد يعيش كلّ تجلّيات الانهيار، ويُترَك شعبه لمصيره، فيما الأزمات تتفاقم من حوله، والسلطة تبدو كمن "لا حول ولا قوة" لها، وهي "تتسوّل" الدعم من الخارج، و"تتغنّج" بانتظاره كأنّ شيئًا لم يكن!.