ها قد بَدأنا منذُ ثلاثةِ أيّامٍ، أي في الأوَّلِ مِن شهرِ أيلولَ، سنةً كَنسيَّةً جَديدة.

مَعروفٌ أنَّ في بِدايَةِ كُلِّ سَنَةٍ جَديدةٍ، يَقومُ الإنسانُ بِمُراجَعَةِ حِساباتِ السَّنةِ الفائتة، بِهَدفِ التَّحسينِ والاستِعدادِ للبَدءِ بِسنةٍ جَديدةٍ تكونُ أفضَلَ مِن سابِقَتِها.

كَذلكَ نَحن، مَع بِدايةِ سَنتِنا الليتُورجيَّةِ الجَديدةِ نأمَلُ أن نتهَيأَ لِتكونَ سنتُنا الجَديدةُ سنةً مَقبُولةً عِندَ الرَّب، ونترَجَّى أن نَقومَ بِمُراجَعةٍ عَميقَةٍ لِسَنتِنا التي مَضَت، بِصِدقٍ وشَفافيةٍ لِتَكونَ توبتُنا مَقبُولةً عِندَ الرَّب. وذلكَ دونَ أن ننسى طبعًا مُراجعاتِنا اليَومِيَّةَ والّتي مِنَ المَفروضِ أن نَقومَ بها باستِمرارٍ دونَ أيّ انقِطاعٍ، كما يَقولُ القِدّيسُ يُوحنّا كرونشتات: "يَجِبُ على المُؤمِنِ ألّا يَخلُدَ إلى النَّومِ قبلَ مُراجَعَةِ يَومِهِ أمامَ الرَّب"، وهذا يَتِمُّ بِالرُّوحِ القُدُسِ وعلى ضَوءِ الإنجِيل، إن كُنَّا حَقًّا مُؤمِنينَ قولًا وفِعلًا.

ليتورجيًّا، يُدعى رأسُ السَّنةِ الكَنسيَّةِ (١ أيلول) بـ "الأنديكتي"، مِنَ اللّفظَةِ اليُونانِيَّةِ "انديكتيون"، والّتي تَعني "تَظهرُ عَلانِيةً/تُصرِّحُ/تُعلِن".

وَقدِيمًا كانَ الأباطِرَةُ الرُّومانُ يُعلِنُونَ عنِ الجِزيَةِ السَّنَويَّةِ على الشَّعبِ لِتَغطِيةِ نَفقاتِ الجَيشِ، وكانَتِ الأموالُ تُجمَعُ قبلَ الشِّتاءِ، في شَهرِ أيلُولَ اليَوم. ويُقالُ إنَّ يُوليوسَ قَيصرَ في عام ٤٩ قبلَ المِيلادِ، أَسَّسَ دَورَةً مَاليَّةً Indiction، كُلَّ ١٥ سنةً، مِن أَجلِ إعادَةِ تَخمينِ الضَّرائِبِ على الأَملاك. كمَا تُذكَرُ بِشكلٍ رَسميّ مَعَ قِسطنطينَ المَلِكِ في العَامِ ٣١٢م. كما يبدو أنَّ أوّلَ أيلولَ كَبِدايَةِ العَامِ الجَديدِ ثُبِّتَ في القِسطَنطِينيَّةِ أيَّامَ يوستيونس الإمبَراطور، في العام ٥٣٧م.

ولا نَنسى أنَّ الإنسانَ، في الأساسِ، زِراعِيًّا، وشهرَ أيلولَ هُوَ مَوسِمُ الحَصادِ والتَّخزين، وكانت تَتِمُّ فيهِ الجَردَةُ للبَدءِ لاحِقًا بِمَوسِمٍ زِراعيٍّ جَديد.

هَذا فيما يَتعلَّقُ بِالبُعدِ التَّاريخِيّ، أمَّا البُعدُ الإيمانيّ فَهوَ جَوهَرِيٌّ، إذ كُلُّ طُقوسِ الكَنيسَةِ وَمُمارَساتِها، مُرتَبِطٌ بِخلاصِ الإنسانِ، وإلّا لَأصبَحتِ الليتُورجيةُ كَرنفالًا، يُبعِدُها عن مَقصَدِ وُجودِها الأَساسيّ، وهذا خَطَرٌ كَبيرٌ لا بَل قَاتِل.

ومَن يَطّلِعْ على إفشينِ رَأسِ السَّنةِ الكَنَسيَّةِ، الّذي يَقرأُهُ الكاهِنُ في الكَنيسَةِ، يُدرِك أنَّ مَضمونَهُ يتمَحوَرُ حولَ العُبورِ مِن مَوتِ الخَطيئَةِ إلى حَياةِ النِّعمَةِ الأبَدِيَّةِ، ويُرَكِّزُ على الصَّلاةِ مِن أَجلِ كُلِّ العَالَمِ والمَسكُونَةِ جَمعاءَ وسلامِها.

لذا عَلينا أن نَتجدَّدَ بِتوبَةٍ صادِقَة، ونُكمِلَ مَسيرَةَ حَياتِنا بِمَخافَةِ الله.

وممَّا يَرِدُ في هذا الإفشين: "نَطلُبُ مِن أجلِ أن يُوهِّلَنا الرَّبُّ إلهُنا لأن نَجوزَ هذِهِ السَّنةَ المُقبِلَةَ، بِسيرَةٍ مَرضِيَّةٍ لِعِزَّتِه الإلهِيَّةِ، مُرشِدًا ايَّانا بِصلاحِهِ، ومُسَهِّلًا لنا مَناهِجَ الخَلاص".

فالإنسانُ لا يُقاسُ بِعَدَدِ سِنيهِ، بِقَدر ما يُقاسُ بِما فَعَلَهُ في سَنواتِ حَياتِه. فالرَّبُّ، مَثلًا، غَيَّرَ المَسكُونَةَ بِثَلاثِ سَنوات. والمَسيحيَّةُ تُناشِدُ الإنسانَ وتُساعِدُهُ مُنذُ وِلادَتِهِ وعِمادِهِ لأن يَسلُكُ دَربَ القَداسَة.

هُنا نَتوقَّفُ عِندَ ما حَذَّرنَا مِنهُ بُولُسُ الرَّسول: لا يَجوزُ أن نَقولَ "فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوت" (١ كورنثوس ٣٢:١٥). فما أَبشَعَ أن يُمضِيَ الإنسانُ حَياتَهُ في فِكرٍ مُظلِمٍ، ويَعتبِرَ أنْ لا قِيامَةً ولا حياةً أبديَّةً مَعَ الرَّب.

النَّصُّ الإنجيلِيُّ الذي اختارَتهُ الكنيسةُ لِيُقرَأَ في الأوَّلِ مِن شَهرِ أيلول، يُخبِرُنا كيفَ قَرأَ الرَّبُّ في المَجمَعِ في النَّاصِرَةِ مِن سِفرِ إشعياء: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ». ثُمَّ شرح «الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ»(لوقا ١٦:٤-٢١).

نَتوقَّفُ هنا عِندَ نُقطَتَين:

النُّقطةُ الأُولى، سنةُ الرَّبِّ المَقبُولة. نَصُّ إشعياءَ مأخوذٌ مِنَ العَهدِ القَديم. والعَهدُ القَديمُ يُحضِّرُ لِمَجيءِ المُخلِّصِ، وهو مَليءٌ بالإشارَاتِ المَسيانِيّة. وفي هذا الاتِّجاهِ، يَذكُرُ سِفرَ اللاويين، سنةَ الرَّبِّ المَقبولَةَ الّتي هي اليُوبيلُ الخَمسون المُقدَّس، إذ يَقولُ اللهُ: "تُقَدِّسُونَ السَّنَةَ الْخَمْسِينَ، وَتُنَادُونَ بِالْعِتْقِ فِي الأَرْضِ لِجَمِيعِ سُكَّانِهَا. تَكُونُ لَكُمْ يُوبِيلًا". العِتقُ هو التَّحرُّرُ، والتَّحرُّرُ الحَقيقيُّ هُوَ القِيامَةُ لِحياةٍ أبَديَّة، وهذا ما حَقَّقهُ الرَّبُّ المَسيحُ بِتَجَسُّدِهِ وصَلبِهِ وقِيامَتِه.

الفَرّيسِيُّونَ لم يُدرِكُوا أنَّ الّذي يُكَلِّمُهم هُوَ المُحرِّرُ والمُخَلِّصُ والمَسيحُ المُنتَظَر، فقد عَمَتْهُم كِبرياؤهُم، وأَغلَظَتْ سُلطتُهُم أذهانَهم، وأظلَمَت أنانِيَّتُهم قُلوبَهم. ولكن أينَ نَحنُ مِن كُلِّ ذَلك؟ فلنسألْ بِصِدق: هل حَقًّا نَعتَرِفُ بِمُخَلِّصِنا؟ هل فِعلًا لا سُلطَةَ على فكرِنا، ولا سِيادَةَ على ذِهنِنا إلّا للمَسيح؟ وهَل نَعيشُ بِحَسبِ وَصاياهُ وإنجيلِه؟.

النُّقطَةُ الثَّانية، كَلِمَةُ "الْيَوْمَ" لَيست مَحدُودةً لاهُوتيًّا.

يَقولُ بُولسُ الرَّسول: "فِي وَقْتٍ مَقْبُول سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ". هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ"(٢كورنثوس ٢:٦).

في كُلٍّ لَحظَةٍ نَتوبُ فيها يَكونُ وَقتًا مَقبُولًا. وفي كُلِّ لَحظَةٍ نَتوجَّهُ فيها نَحوَ المَسيحِ قَلبًا وقَالِبًا، يَكونُ يَومَ خَلاص. فكُلُّ لِقاءٍ مَعَ الرَّبِّ انطلاقٌ لِلحياةِ الجَديدَةِ مَعَه.

فَسمعانُ الشَّيخُ انتَظَرَ طَويلًا، وفي اللَّحظَةِ الّتي التَقى فيها الرَّبَّ، وحَمَلَهُ على يَدَيهِ، أدرَكَ أنَّ الرَّبَّ الّذي يَحمِلُهُ وليسَ العَكس، عِندَها تَفوَّهَ مُنشِدًا: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ"(لوقا ٢٩:٢-٣٠).

هذا الإعلانُ بِالذّاتِ نَقُولُهُ كامِلًا في لِيتُورجيَّتِنا المَهيبَةِ، في كُلِّ صلاةِ غُرُوبٍ، بعدَ أن نَكونَ قد أنشَدْنا "يا نورًا بَهيًّا، لِقُدس مَجدِ الآبِ الّذي لا يَمُوتُ السَّماويّ، القُدُّوسُ المَغبُوط، يا يَسوعُ المَسيح. اذ قد بَلَغنا، إلى غُروبِ الشَّمسِ، ونَظَرنا نُورًا مَسائيًّا، نُسَبِّحُ الآبَ والابنَ والرُّوحَ القُدُسَ، الإله، فيا ابنَ اللهِ المُعطي الحَياة، إنَّكَ لَمُستَحِقٌّ في سائِرِ الأوقات، أن تُسبَّحَ بِأصواتٍ بَارَّة. لِذَلِكَ، العالَمُ، لكَ يُمَجِّد".

تعودُ هَذهِ الصَّلاةُ النُّورانيَّةُ إلى القُرونِ الأولى للمَسيحِيَّة، ولا يَخفى على المُلِمِّ بالحَضاراتِ القَديمَةِ ما كانَ يُعرَفُ عِندَ اليُونانيّين باستقبالِ نُورِ الإلهِ الكَونيّ عِندَ المَساء، إذ إنَّ المَسكُونَةَ جَمعاءَ كانت تَبحَثُ عَنِ الإلَهِ المُخلِّص.

في إنجيلِ غدٍ الأحَدِ نَقرَأ: "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ"(لوقا ٢٣:١٨)، وفِعلُ "يُحاسِب" هُنا بِأصلِهِ اليُونانيّ synarai، يَعني أيضًا "يَجمَعُ" للوُصولِ إلى النَّتيجَةِ أي الحَصَاد، وأيضًا يَلتقي، في اللُّغَةِ والجَذرِ والفِعلِ، مَعَ كَلِمَةِ "مَجمع" synagogue/synagoguis(مرقس ٢٩:١) حيثُ الكُلُّ يَجتَمِعُونَ بِقَلبٍ واحِدٍ لِتَمجيدِ الله.

فالمَسيحُ قالَ، لَقد تَمَّ كُلُّ شَيءٍ، ولم يَعُد أمامَنا إلّا لُقياهُ، وهُوَ الّذي يَجمَعُنا.

وإذا ذَكَرَ سِفرُ الخُروجِ أنَّ هارونَ كان يُوقِدُ سِراجًا على المَذبَحِ قُدّامَ "الْحِجَابِ الَّذِي أَمَامَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ" (خروج ٨:٣٠)، حيثُ كانَ الرَّبُّ يأتي لِيلتَقِيَ بِمُوسى، ففي العَهدِ الجَديدِ أتى الرَّبُّ لِيَلتَقِيَ كُلَّ واحدٍ مِنّا دُونُ أيّ استِثناء، فلا ينتهي غُروبُ يومِ حَياتِنا سُدًى، بل فلنَبدأ نَهارًا جَديدًا بِالنُّورِ الإلهيّ، وليَكُن يومُ خُروجِنا مِن هَذِهِ الحَياةِ مُبارَكًا ومَقبُولًا.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.