"مِن الأفضَلِ أن تَكونَ خِنزيرَ هيرودُسَ مِن أن تَكونَ ابنَهُ". هذا ما كَتَبَهُ Macrobius[1] قاصِدًا أنَّ هِيرودُسَ لن يَقتُلَ الخَنازِيرَ كما قَتلَ الأطفالَ وثَلاثَةً مِن أَولادِه.

ووصَفَ المُؤرِّخُونَ هِيرودُسَ بِأنَّهُ "العَبقَريُّ الشرّيرُ لأُمَّةِ يَهوذا[2]"، وأنَّهُ الشَّخصُ الّذي "سَيكونُ مُستَعِدًّا لارتِكابِ أيِّ جَريمَةٍ مِن أَجلِ إرضَاءِ طُموحِهِ غيرِ المَحدُود".

أرادَ هِيرودُسُ أن يَدخُلَ التَّاريخَ، فقامَ بِأعمالٍ هَندَسِيَّةٍ وأَسَّسَ مُدُنًا جَديدة، ولَكِنَّهُ دَخَلَهُ كَذابِحِ أطفالِ بيتَ لَحم. عَدا عن أنَّ نِهايَتَهُ كانت بَشِعَةً جِدًّا، فقد مَاتَ مُتعَفِّنًا[3] بِسَببِ مَرَضٍ عُرِفَ لاحقًا باسمِ "شَرِّ هِيرودُس". وقد سَبَّبَ له ألَمًا كَبِيرًا إلى حدِّ أنَّ الدُّودَ كانَ يَخرُجُ مِن جَسَدِه. ويُذكَر أنّه كان هو وكليوباترا يمتلكان احتكارًا لاستخراج الأسفَلت مِن البحر الميت، والذي كان يُستخدم في بناءِ السفن، لكنّه لم يسعى لبناء سفينةَ خلاصه.

هكذا انتَهى بِهِ المَطافُ، والتَّاريخُ لا يَرحَمُ أحَدًا.

لِنأخُذْ شَخصِيَّةً ثانِيةً، أرادَ صاحِبُها أيضًا أن يُخَلِّدَهُ التَّاريخ، وهو الإمبراطور الرُّومانيّ Caligula (القرن الأوّل). فقد قامَ بِمَشارِيعَ هَندَسِيَّةٍ كَبيرَةٍ، مَعَ ذَلِكَ صُنّفَ مِن أَكثَرِ الأباطِرَةِ وَحشِيَّةً. وإذا سألنا مَا هُوَ سِرُّ وَحشِيَّتِهِ، تَأتي هَذِهِ الحَادِثَةُ المَشهورَةُ خَيرَ جَواب.

ففي خِضَمِّ مُجادَلَةٍ حَولَ النُّبلِ في النَّسَب، صَرخَ كاليغُولا بِأْعلى صَوتِهِ ما قالَهُ هُوميرُوس: "لِيَكُن هُناكَ حاكمٌ واحِدٌ، ومَلِكٌ واحِدٌ"، عانِيًا بِذَلِكَ شَخصَه، وطالِبًا أن يُعبَدَ كإلَه.

هذا جُنونُ العَظَمَةِ Mégalomanie، وهنا مَكمَنُ كُلِّ المَشاكل.

فيلو الإسكَندَرِيّ، وسينيك المُعاصِرانِ لِكاليغولا، وَصفَاهُ بِالإمبرَاطُورِ المَجنُونِ، الأنانِيّ، الَّذي يَدورُ حَولَ نَفسِهِ، ومِحوَرُهُ ذاتُه. فقد استَبدَلَ رُؤوسَ تَماثِيلِ الآلِهَةِ المُنتَشِرَةِ في أَنحاءِ رُوما بِمُجَسَّمٍ عن رأسِهِ، مُعتَبِرًا ذاتَهُ إلهًا جَدِيدًا باسمِ Neos Helios أي الشَّمس الجَديدَة. كما كانَ غَضُوبًا، مُحَقّرًا للآخَرِينَ، مُجرِمًا، مُبَذِّرًا للمَالِ ومَهووسًا بِالجِنس. وفي النِّهايَةِ انتَهى كاليغُولا مَطعُونًا ثلاثِينَ طَعنَة[4].

مَعَ كِلا الشَّخصيَّتَينِ لا سَلامَ، لأنَّهُما أصلًا لا يَعيشَانِ بِسَلامٍ، وهُما دائِمَا الاضطِراب، يَثُورانِ ضِدَّ كُلِّ ما يَعتَبِرانِهِ مُغايرًا لِمِزاجِهما، مُدَّعِيَينِ بِأنّهما يُريدَانِ الكَمال. ويُؤَكِّدُ عِلمُ النَّفسِ في هَذا المَجالِ، أنَّ هذا مَرضٌ خَطيرٌ، إذ هُوَ صُورَةٌ مُعَظَّمَةٌ للأَنا المَريضَة.

ويَشرَحُ المُؤرِّخُونَ أنَّ الّذينَ يَدورُونَ في فَلَكِ هَذينِ الشَّخصَين هُم أُناسٌ هَمُّهُمُ الأوحَدُ نَيلُ رِضاهُما. فلا يُمكِنُ أن يتشَكَّلَ إلى جانِبِهما فريقٌ بَنّاءٌ ومُثمِر، لأنَّ طِباعَهُما محفوفةٌ بالخَوفِ الدَّائِمِ والاضطِراب، فثقتُهُما بأيِّ إنسانٍ معدومةٌ، وعلاقَتُهما بالآخَرين مبنيَّةٌ على الفَوقِيَّة. ممَّا يُكَوِّنُ بيئَةً غيرَ صَحيحَةٍ، بل حاضِنةٌ للمُستَفِيدِينَ والمُغرِضِينَ والحاسِدِين والمُتَزلِّفين.

لِننتَقِلِ الآنَ مِن هَذِهِ الصُّورَةِ القاتِمَةِ، إلى صُورَةٍ ذَهَبيَّةٍ نُورانِيَّة، وهيَ صُورَةُ القِدّيسِينَ الّذينَ يَشُقّونَ عَتمَةَ التُّرابِيّاتِ، ليُدخِلوا نُورَ السَّماوَاتِ إلى حياتِنا مُبَدِّدًا كُلَّ ظَلام.

يَرتَبِطُ عنوانُ هذهِ المَقالَةِ بِتَذكارِ قِدّيسٍ عَظيم، هُوَ رَئيسُ أساقِفَةِ القِسطَنطِينِيَّةِ يُوحنَّا الذَّهبيّ الفَم[5] (٣٤٧-٤٠٧).

لَقبُهُ Chrysostomos، يُونانيٌّ مِن "ذَهَبٍ Chrysos وفَمٍ Stoma"، وذلك لأنَّهُ كانَ ذَهبِيَّ القَلبِ والسِّيرَةِ، فَأتَتْ عِظاتُهُ ذَهَبِيَّةً، "الإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ" (لوقا ٤٥:٦) و "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الفم".

وهُنا يُطرَحُ السُّؤالُ: تُرى مَا الّذي يَجعَلُ إنسانًا يَدخُلُ صَفَحَاتِ التَّاريخِ الذَّهَبِيَّةَ؟

الذَّهبيُّ الفَمِ كان حَقِيقيًّا Authentique، لَم يَطلُبْ يَومًا شَيئًا لِنَفسِه، لا مَقامًا ولا مَركَزًا، حتّى أنَّهُ حَاوَلَ أن يَهرُبَ كي لا يُصبِحَ أُسقُفًا.

تُرى هل كانَ هاجِسُهُ أن يُصبِحَ مَعرُوفًا عِندَ النَّاس؟ الجَوابُ بِالطَّبعِ لا. لأنَّ سَعيَهُ الوَحِيدَ والدَّائِمَ كانَ تَمجيدَ اسمِ اللهِ فيهِ ولَيسَ تَمجيدَ اسمِهِ هو. وشتَّانَ بينَ الأمرَين.

يُعتَبَرُ القِدّيسُ الذَّهبيُّ الفَمِ مِن كِبارِ شُرّاحِ الكِتابِ المُقدَّس، وهُوَ مَعَ القِدّيسَينِ باسِيليوسَ الكَبيرِ، وغريغُوريوسَ اللّاهوتي يُشَكِّلون ما يُعرَفُ بـ "الأقمارِ الثَّلاثَةِ"[6]. هنا، تَحديدًا، نَذكُرُ أنّه كانَ دائمًا يَقرَأُ الكِتابَ المُقدَّسَ واقِفًا أو ساجِدًا، أي مُصَليًّا وطالِبًا مُؤازَرَةَ الرُّوحِ القُدُسِ لِفَهمِ الآياتِ والنُّصُوص. وحَدَثَ مِرارًا أن ظَهرَ له القِدّيسُ بُولُسُ الرَّسُول.

بالنِّسبَةِ لنا، هل يكفي أن نَقُومَ بِتَردادِ أقوالِهِ لِنُماثِلَهُ، أو نَستَشهِدَ بِأقوالِ الآباءِ القِدّيسِينَ لِنُماثِلَهم؟ أم إنَّ عَيشَنا للكَلِمَةِ هُوَ المِعيار؟ وهل إذا كانت كَلِماتُنا مُنَمَّقَةً، ذاتِ حَبكاتٍ لُغَوِيَّةٍ مُعقَّدة، ومُفرَداتٍ نَادِرة، نُصبِحُ مِنَ "الكِبار"؟ خاصَّةً إذا لم تَنسَجِمْ أقوالُنا مَعَ ما نَسعى إليه؟.

الجَوابُ طَبعًا كلا. أن نُصبِحَ ذَهبيِّينَ، يَعني أن نَمتَلِكَ الاتِّضاعَ الكامِلَ والتَّوبَةَ والصَّلاةَ النَّقيَّةَ والمَحبَّةَ الكامِلَةَ البَعيدَةَ عن تَمْجيدِ الذَّات.

مِن هنا نَجِدُ أنَّ قِدّيسَنا وَضَعَ كُلَّ ما تَعلَّمَهُ في صِباه، مِن فَلسَفَةٍ وبَلاغَةٍ وفُنون الخِطابَةِ والآدابِ الإغريقِيّة في خِدمَةِ الإنجِيلِ، لإيمانِهِ بأنَّه بِاللاهُوتِ، الّذي هُوَ كلامُ اللهِ وفِعلُهُ، يَكتَمِلُ الجَمالُ، ويَتِمُّ الخَلاص.

وزَمانُ القِدّيسِ يُوحنَّا، لم يَكُن سَهلًا البَتَّة، لِدَرجَةٍ أنّه وَصَفَ مَدينَتَهُ الأُمَّ أنطاكِيةَ، فِردَوسًا للخَطِيئَةِ والفَسادِ والانحِلال، لأنَّهُ كانَ مُستاءً مِنَ الحَياةِ المُزدَوِجَةِ للنَّاسِ فيها، فَكثِيرون مِنهم كانوا يَسمَعونَ عِظاتِه، ويُصَفِّقُونَ لَها، ثمَّ ما يَلبَثونَ أن يَعُودُوا إلى انحِرافاتِهم "كَمَا يَعُودُ الْكَلْبُ إِلَى قَيْئِهِ، هكَذَا الْجَاهِلُ يُعِيدُ حَمَاقَتَهُ." (أمثال ١١:٢٦).

خُلاصَةً نَقولُ ما كانَ يُرَدِّدُهُ القِدّيسُ يُوحَنَّا الذَّهبيُّ الفَمِ أنَّنا تَحتَ نَظَرِ اللهِ في كُلِّ ما نَفعلُهُ.

هذا يُذَكِّرُني بِمَقولَةٍ للكَاتِبِGeorge Orwell " The big brother is watching you[7] الأخُ الأكبَرُ يُراقِبُك" التي اجتَاحَتِ الإعلامَ كالنَّارِ في الهَشيم. فقد قَصَدَ بِالأخِ الأكبَرِ "الدِّيكتاتُوريَّة" الّتي تُراقِبُ كُلَّ شَيءٍ بِشَكلٍ دائمٍ، ولا أَحَدَ يَنجو مِنها.

القِدّيسُونَ أيضًا قَالُوا: "اللهُ يَراني"، وعَاشُوا بِمُوجَبِ هذا القَولِ في حَياتِهِم الخاصَّة، وفي علاقاتِهم بالآخَرين. ولَكِنَّ الفَرقَ شاسِعٌ بينَ نَظرِ اللهِ الدَّائِمِ نَحونَا، ونَظَرِ الدِّيكتاتُورِيَّة. هذِهِ لِتَتسلَّطَ وتَقمَعَ، أمّا يَسوعُ فَلِيَبني ويُخَلِّص.

وإذا أَدرَكْنا حَقًا بِأنَّنا دائِمًا في حَضرَةِ اللهِ، نَجعَلُ أنظارَنا وقَلبَنا تائقةً دَومًا إليهِ، فَيكونُ عِندَهَا اللِّقاءُ، فَالتَّوبَةُ، والتَّنقيَةُ فالاستِنَارَةُ، فالتَّألُّه.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] Macrobius Theodosius - Saturnalia[1] (400 AD)

[2] Tierney, John. "Herod: Herod the Great", Catholic Encyclopedia (1910): "Herod, surnamed the Great, called by Grätz "the evil genius of the Judean nation" (Hist., v. II, p. 77).

[3] Flavius Josephus (First century)

[4] Suetonius, The Lives of Twelve Caesars, Life of Caligula 57, 58.

[5] تذكاره في ١٣ تشرين الثاني.

[6]عيدهم في ٣٠ كانون الثاني.

[7] Nineteen Eighty-Four (also stylised as 1984) is a dystopian social science fiction novel and cautionary tale written by English writer George Orwell, achieved on 1948.