يعزّ علينا ما وصلت إليه الأوضاع في لبنان، حيث يطالعنا الإعلام يوميًّا بأخبار تحمل الكثير من التشاؤم، هذا واقع الحال. مؤخّرًا قرأتُ عن احصائيات وتحليل بين الجانب اللبناني وصندوق النقد لبدء التفاوص، بعد أن صرنا على حافة الهاوية أو في صلبها، كما موضوع إغلاق الجامعة اللبنانية والحلول السياسيّة، وملفّ الحكومة مرتبط بالأزمة مع المملكة السعودية، وأزمة البنزين تنعكس سلبًا على استهلاك المواد الغذائية، الأمر الذي يهدّد الأمن الغذائي! هذا فضلًا عن الأزمات السياسية والأمنيّة وقضايا المرفأ والطيونة وخلدة وانفجار عكار... والقنبلة الموقوتة، أعني الإنتخابات النيابية المقبلة، ناهيكم عن التراشق الإعلامي بين المسؤولين، والخطابات النارية... دون أن ننسى موضوع السلاح والتسلّح، وكأننا عشية حرب لا سمح الله.

واضح أن هذا البلد لم يعد بأيادٍ بشريّة أمينة، إنما رجاؤنا بالله الذي باركه منذ الأزل.

هذا البلد الذي شبّه الحكيم سليمان عروسه به منشدًا: "هلمّي معي من لبنان يا عروس، معي من لبنان"(نشيد 4: 8). يُذكَر في العهد القديم مرّاتٍ كثيرة. تضرّع موسى إلى الله ليسمح له رؤيته ولو من بعيد، "دعني أعبر وأرى الأرض الجيّدة الّتي في عبر الأردن، هذا الجبل الجيّد ولبنان"(تثنية 3: 25).

في موضع آخر قال عنه سفر المزامير: "تَشبع أشجار الرّب أرز لبنان الّذي نصبه"(مز 104: 16)، أشجار الرب والأرز إشارة لشعب الله المثمر الذي "كالنخلة يزهو وكالأرز في لبنان ينمو"(مزمور 12:92).

يُعرف لبنان برائحته الزكيّة في سفر ناحوم، وبنتاج كَرمِه في سفر هوشع. ويعني إسم "لبنان" الّلون الأبيض مثل اللبن، إشارة إلى قِمم جباله المكلّلة بالثّلوج. أما العهد الجديد فيشير إلى بعض المدن الّلبنانيّة القديمة الّتي زار المسيح وتلاميذه تخومها. فيخبرنا الإنجيل المقدس أن المسيح زار نواحي صور وصيدا وهناك صنع معجزة شفاء ابنة الكنعانية(متى 15: 21-28). وبعد العنصرة أسس الرسل كنيسة صور وصيدا وبيروت وجبيل، وهم في طريقهم إلى إنطاكية.

هذا لبنان الذي من المفترض أن نحبّه صنعه الله ووضعه أمانة بين أيادي اللبنانيين، لكن للأسف خنّا الأمانة. فبدلًا من أن نحرس ونحفظ هذه الوديعة السماوية، مارسنا الزنى مع الشرير، فجاء المخاض وأنجبنا المشاكل والمصائب والنكبات والحروب والفتن، ناهيكم عن التهجير والتنكيل والقتل على الهوية، وتشريدٍ وجوعٍ وعوز...

سمعت يومًا قولًا (الله خلق لبنان والشرير خلق اللبنانيين). شعبنا أتقن التكاذب، امتهن الفساد وبرع في التواطؤ ضد بعضه البعض. وبدل أن تكون الطوائف نعمة باتت نقمة، وبدل أن يكون هذا النسيج مصدر غنى وصلنا إلى ما نحن عليه، نُشرى ونباع، وهمنا الأول والأخير إرضاء أولياء الأمر خارج الحدود، الذين استفادوا من تفرّقنا وانقسامنا، فاشتروا ضمائر المسؤولين عندنا، ناسين أنّ مَن اشترانا يستطيع أن يبيعنا ساعة يشاء.

قد يستنكر البعض هذا التوصيف ويرفضه، لكن الواقع أثبت هذه الحقائق، وما زلنا نرفع شعارات مؤيدة للزعماء، ونردد بالدم بالروح نفديك يا زعيم، وما من أحدٍ ردّد نفديك يا لبنان. فلو كنا متّحدين لما استطاعت دول العالم بأسره على مقارعتنا، ولا كنا بحاجة إلى حسناتهم وفرض العقوبات من جهات دولية أو دول شقيقة ساهمنا يومًا بإعلاء شأنها.

رحم الله اميل إده الذي قال يومًا نحن لسنا شعبًا واحدًا... نحن مجموعة طوائف، وكل طائفة لديها الدولة المرشدة. وأضاف فلنترك الفرنسيين عندنا يعلّموننا كيف نكون شعبًا يستطيع بناء دولة.

عودوا يا حكام بلادي إلى ضمائركم وإلى الذكرى الطيبة لأجدادكم، عودوا إلى الله ولا تتقاتلوا باسمه وباسم الطائفة والدين، ولا تدافعوا عنه وهو براء من تصرفاتكم. إرجعوا إلى ما صنعه الله من جمال في هذا البلد، الذي شوهتم وجهه وحولتموه جميعًا، دون استثناء، إلى ساحة للإقتتال والتناحر والتناطح السياسي والطائفي، أعيدوا لنا الفرح الذي سرقتموه منّا، "أتركوا شعبنا يعيش"، وتذكروا أن الله سيدينكم وأن عدالة السماء ستطالكم مهما فعلتم من شرذمة في عدالة الأرض.

تذكروا أن ما من أحد مات وأخذ مجدًا من الذي سعى إلى تحقيقه في هذا العالم الأرضي الفاني. عودوا إلى "كلمة سواء" ونهج الإمام المغيّب موسى الصدر والكبار من أمثاله، عودوا إلى النقاط المشتركة بين الديانات، بحيث يصبح الدين منطلقا للحوار وليس سببًا للإنقسام والتقاتل. تذكروا أن كل مَن ساغت نفسه ضرب لبنان لن يرحمه الله وسيتقيأه التاريخ.

ينبغي علينا المحافظة على جمال وقدسية هذه الأرض ومجدها، وهذا لا يكون إلا بالعودة إلى الله الواحد بكلّ قلوبنا. ساعين إلى توبة حقيقية صادقة لكي تعود البراءة إلى أرضنا، فيزول الفساد والشّر، وهكذا تتبارك مجددًا بلاد الأرز، فتعود إلى شريعة الإنسان لا شريعة الغاب السائدة حاليًا. وهكذا يعود لبنان متألقًا لينعم بالخير والفرح والبركة والبحبوحة من جديد. عودوا أيها المسؤولون إلى لبنان، واتركوا التبعية التي اخترتموها مكرهين، استقواءً بالغريب على حساب اخوتكم بالمواطنة، عودوا أيها اللبنانيون إلى إرث آبائكم وأجدادكم ولا تنزلقوا في ما تُستدرجون له من فتن، كونوا كأشجار الأرز مثمرين. تذكروا المثل القائل: "زؤان بلدك، ولا قمح الغريب".