في وقتٍ لا يزال "شبح" الفراغ يشلّ المؤسّسات الدستورية عن بكرة أبيها، وعلى رأسها مجلس الوزراء "الممنوع" من الاجتماع حتى إشعار آخر، كرّت سبحة الخطابات السياسية في البلاد خلال الفترة "الانتقالية" بين عامين، لتضرب الأرقام "القياسية" إن جاز التعبير، وتنذر بموسم انتخابي حافل وربما "واعد"، قوامها "شدّ العصب"، بكلّ مستوياته وأشكاله.

في أيامٍ معدودة، أدلى كلّ "زعماء" المنظومة السياسية بدلوهم، بدءًا من رئيس الجمهورية ميشال عون، مرورًا برئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، وصولاً إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، وبالوكالة عنه معاونه السياسي الوزير السابق علي حسن خليل، إضافة إلى الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله.

ولعلّ اللافت في خطابات "الزعماء" السالفي الذكر أنّها "تقاطعت" من حيث الأهداف، ولو تباينت إلى حدّ "النقيض" من حيث المضامين والشعارات، فالأساس بالنسبة إليهم كان "شدّ عصب" الجمهور المُستهدَف، وبالتالي مخاطبة وجدان البيئة الحاضنة، والتركيز على ما يصب في خانة "دغدغة المشاعر"، بمُعزَلٍ عن التداعيات التي يمكن أن تترتّب على ذلك.

باختصار، إنّه قطار الانتخابات وقد انطلق أخيرًا، وبعد طول انتظار، مع تحديد موعد الاستحقاق النيابي "الموعود" في شهر أيار المقبل، وهو رغم سلبيّاته، من حيث التعبئة الشعبيّة، له إيجابيّات وفق البعض، تتمثّل في الإقرار الضمنيّ بأنّ الانتخابات حاصلة، فهل سيكون هذا الخطاب هو "المهيمن" في الأشهر المقبلة، وهل تتحمّل البلاد تداعيات مثل هذا "الشحن"؟!.

لا يجد المرء صعوبة في قراءة الأبعاد "الانتخابية" خلف معظم خطابات الأيام القليلة الماضية، فرئيس الجمهورية الذي قيل إنّ رسالته كانت بمثابة "توطئة" لأطروحة رئيس "التيار الوطني الحر"، حاول أن "يغسل يديه" من كلّ الأزمات التي انعكست سلبًا على عهده، متنصّلاً من مسؤولية "الشلل" الحاصل اليوم، بفعل قرار "مقاطعة" جلسات مجلس الوزراء.

وفيما "انتفض" رئيس الحكومة سريعًا، لينفض يديه هو الآخر من المسؤولية، منبّهًا من "تداعياته" دعوته لجلسة للحكومة "بمن حضر"، متّهمًا رئيس الجمهورية بشكل غير مباشر باللعب في خانة "المزايدات"، جاء كلام الوزير السابق جبران باسيل أخيرًا، ليدشّن رسميًا الموسم "الانتخابي" بهجومه الشامل، الذي صوّب فيه على الجميع، حلفاء وأخصامًا.

ومع أنّ باسيل أنكر "المصلحة الانتخابية" خلف معركته "المستجدّة"، التي شملت هذه المرّة "حزب الله" بشكل واضح، إضافة إلى خصومه "التقليديّين"، رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فإنّ المراقبين يتّفقون على تصنيف خطابه بالمجمل "انتخابيًا بامتياز"، للكثير من الاعتبارات.

وإذا كان هجوم باسيل المباشر على جعجع مفهومًا ومشروعًا بالمعنى الانتخابي، خصوصًا أنّه "خصمه" الأول في المناطق ذات الثقل المسيحيّ، فإنّ "معركته" مع بري وسلامة لا تقلّ شأنًا، حيث حاول رمي كلّ "الإخفاقات" عليهما، طبقًا لمقولة "ما خلونا" التي أوحى باسيل أنّ الرجلين قاداها، مع شركائهما الآخرين، الأمر الذي منع "العهد" من تحقيق التطلّعات والآمال.

ولأنّ "حزب الله" بدا في الآونة الأخير "شريكًا أصيلاً" في معركة "مواجهة العهد"، بعدما "شلّ" الحكومة التي كان "التيار" يراهن عليها لتعويض ما أمكن ممّا فات، مع بدء العدّ العكسي لانتهاء الولاية الرئاسية، كان لا بدّ من توجيه "السهام" إليه، خصوصًا بعدما تحوّل التفاهم معه في المزاج الشعبي المسيحي إلى "نقمة"، في ضوء "نفور" من أدائه، حتى من جمهور "التيار".

وبالأبعاد "الانتخابية" نفسها، جاء ردّ حركة "أمل" على باسيل، لترفع معدّلات "الشحن" إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، ليس فقط عبر النعوت والتوصيفات التي أطلقتها على رئيس "التيار"، ولكن أيضًا من خلال الاتهامات المباشرة التي وجّهتها له بالهدر والفساد، في قطاعات استلمها "العونيّون" على مرّ السنوات، على رأسها قطاع الطاقة الحيوي.

وجاء خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله الأخير ليكمل "عدّة الشغل" الانتخابية، فهو وإن حرص على الإبقاء على "التوازن" في علاقاته الداخلية، من خلال التمسّك بالتفاهم مع "التيار"، إلا أنّه غرّد أيضًا بما "يدغدغ" مشاعر جمهوره، و"يستفزّ" حلفاءه وشركاءه، من خلال الهجوم المباشر على الملك السعودي، ووصفه صراحةً بـ"الإرهابيّ".

وإذا كان هناك من يبرّر الأمر بالقول إنّ السيد نصر الله كان يردّ على "توصيفه" هو بـ"الإرهابي"، من دون أن يرفّ جفن أحد من المنظومة، فإنّ الأكيد أنّه كان "يعلم" بتبعات هجومه، الشعبية والسياسية، بدليل ما قاله عن أنّ "القيامة ستقوم عليه" بسبب هذا الكلام، الذي يأتي بعد سلسلة أزمات دبلوماسية غير مسبوقة مع دول الخليج، لم تنتهِ فصولاً بعد.

لا شكّ أنّ الخطابات "المتشنّجة" لن تنتهي عند هذه الحدود، إذ يؤكد العارفون أنّها ستكون "عنوان" المرحلة في القادم من الأيام، وحتى يحين موعد الانتخابات النيابية، خصوصًا أنّ "الاستقطاب السياسي" لطالما كان "الجاذب الأول" في المواسم الانتخابيّة، وهو ينطبق على الاستحقاق المقبل بطبيعة الحال، في ضوء السياق السياسي الحسّاس الذي تأتي به.

من هنا، يتوقَّع أن تزداد حدّة الخطاب السياسيّ في المرحلة المقبلة، عملاً بشعار "إنّها الانتخابات يا عزيزي"، مع ما ينطوي عليه من مخاطر "تحريض وشعبوية وتحريض" وما إلى ذلك، خصوصًا أنّ الأطراف السياسية على اختلافها تجد نفسها "مربكة" أمام الاستحقاق الذي لا يشبه أيًا من سوابقه، وهو الأول منذ الحراك الشعبي وما تلاه من انهيار اقتصادي ومالي شامل.

وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فعلى أنّ كلّ المبادرات التي لا تزال تُطرَح، لن تكون قابلة للتطبيق في مرحلة الانتخابات، وأولها الحوار الذي طرحه رئيس الجمهورية، والذي يبدو أنّه سيبقى حبرًا على ورق، رغم أنّ التقديرات تشير إلى أنّ "التشنّج" سيبقى مضبوطًا، وهو لن يصل إلى نقطة "اللاعودة" بقرار ضمنّي من جميع الأفرقاء بطبيعة الحال.

اعتاد اللبنانيون أن تكون كلّ الأسئلة "مشرّعة" في مواسم الانتخابات، التي يرتفع معها مستوى "التحريض"، لتُطوى الصفحة بعد اليوم "الموعود" كأنّ شيئًا لم يكن. قد يكون ذلك "مشروعًا" عادة، لكنّه يكاد يصبح "محرّمًا" في زمن "الانهيار"، زمن لا تبدو معه الانتخابات مهدَّدة في الصميم فحسب، بل الوطن برمّته على "فوهة بركان"!.