تأتي رسالة مِن بدايات القرن الثالث الميلادي والمعروفة بالرسالة إلى ذيوغنيتس كجواب لكل مسيحي في هذا العالم، تصف "من هم المسيحيّون" فتقول بإيجاز: "أسلوب معيشتهم يوجب الإعجاب. تراهم يسكنون البلدان ولكنّهم غرباء "لأنّهم أبناء السماء". يشتركون في كلّ شيء كمواطنين. يقضون أيّامهم على الأرض ولكنّهم مرتبطون بوطن سماويّ. يطيعون القوانين المرعيّة ولكنّهم يتقيّدون بأكثر منها في حياتهم الخاصّة: "أي بالإنجيل". فالمسيحيّون يسكنون في العالم ولكنّهم غريبين عنه، ويعيشون غرباء بين الأشياء الفانية منتظرين الخلود في السماء".

هذه الجملة: "يشتركون في كلّ شيء كمواطنين"، كافية لتضع النقاط على الحروف. فالمقصود منها طبعًا: "كمواطنين صالحين". ولا داعي لتعداد كل صفات المواطن الصالح، فهي معروفة لكل الناس: هو طبعًا الذي لا يمارس الفساد ولا يشهد للباطل ولا يخون وطنه ولا يعيث فيه خرابًا، يشارك في بنيانه وتحسينه وتطويره. لا يناصر الشر بل يسعى لعمل الصلاح. فهو مواطن مسؤول تجاه وطنه الذي ولد فيه ويعيش فيه ويحمل جنسيّته. وإذا كان قد ارتقى مسؤوليات في وطنه يتمّمها على أكمل وجه بصدقٍ وشفافيّةٍ واستقامة.

ما ذُكِرَ أعلاه يخص كل مواطن. فكيف بالأحرى إذا كان هذا المواطن يؤمن حقًا بالرب يسوع المسيح الذي علّمنا أن نصلّي "الأبانا" التي نقول فيها: "لتكُن مشيئتُك. كمـا في السـماءِ كذلك على الأرض"!.

لنسأل: مَن المدعو لتحقيق مشيئة الله على الأرض، وما هي مشيئة الله؟.

بالنسبة إلى السؤال الأوّل: كل مسيحيّ. والجواب على السؤال الثاني: القداسة التي تتحقق بعيش الإنجيل، وعدم ارتكاب السوء والشر والإساءة إلى الآخرين، وخدمة الجميع بمحبّة ومسؤولية وتنزّه، والتوبة ومراجعة الذات، وعدم السلوك في الأمور الملتوية، لا بل الامتلاء من الروح القدس، والصيرورة إنجيلًا حيًّا بكل ما للكلمة من معنى، عقيدة وإيمانًا وأقوالًا وأفعالًا.

كلّ ذلك يتطلّب التزاما ثلاثيًّا وثالوثيًّا، بمعنى الالتزام مع الله ومع الآخر ومع الذات.

الالتزام يعني عدم الفتور. فالفاتر يكون فاترًا في كل شيء، والرب يتقيأ الفاترين: "هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي"(رؤيا ١٦:٣).

لا يمكن للمسيحي أن ينظر إلى الشر الذي يستفحل في داخله، أو في عائلته، أو في مجتمعه. أو في وطنه، أو في العالم بأسره، ويقول: هذا ليس شأني!

ولا يمكن للمسيحي أن يكون مواطنًا في وطنه دون أن يشارك في بنيانه بحسب مهامه ومواهبه.

ولا يمكن للمسيحي أن يتغاضى عن فاعلي الشر، ولا يسعى لتطبيق الخير. ألم يقل الرب بلسان إشعياء النبي: "وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْرًا وَلِلْخَيْرِ شَرًّا، الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُورًا وَالنُّورَ ظَلاَمًا، وَالَّذِينَ يُبَرِّرُونَ الشِّرِّيرَ مِنْ أَجْلِ الرُّشْوَةِ، وَأَمَّا حَقُّ الصِّدِّيقِينَ فَيَنْزِعُونَهُ مِنْهُمْ"(إشعياء ١٩:٥-٢٣).

إذا كان المسيح هو حقًا مثالنا فلنقرأ ما قاله عن هيرودس: «امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ"(لوقا ٣٢:١٣).

مهلًا، هل وصف يسوع الحاكم هيرودس بالثعلب؟ نعم. وذلك لأن هيرودس كان محارِبًا لكلمة الله والحق، لا بل كان يمارس الشر والبطش لتحقيق مصالحه الشخصيّة.

كذلك حدّد بولس الرسول مهام الحاكم بأنّه: "خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ"(رومية ١٣:٥).

إذا كان الرسل والآباء القدّيسون مثالنا، فلننظر أيضًا إلى سيرتهم وأعمالهم بوجه كلِّ ظلم وشرّ، مِن أية جهة كانت، وكيف تدخلّوا شخصيًّا لحماية الناس والشعب والمواطنين من الأوامر الجائرة التي كانت تصدر عن الأباطرة. هم لم يخافوا أن يشهدوا للحق ولم يتردّدوا أبدًا، لأنّهم كانوا يدركون بأنّهم مواطنو السماء، وبالتالي وُجِب عليهم أن يشهدوا لإنجيلهم حتى الاستشهاد.

الإنجيل لا يعاش بانفصام ولا بازدواجيّة ولا بمحاباة ولا بتدجيل ولا بهروب من المسؤوليات الملقاة على عاتقنا.

فالقدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان (القرن الرابع ميلادي) مثلًا، وقف في وجه الإمبراطور ومنعه مِن دخول الكنيسة، وذلك لأن هذا الأخير أصدر أوامر بصدّ المتظاهرين وقتلهم، عِلمًا أن القدّيس كان صديقًا للإمبراطور، إنّما إنجيله يأتي أولًا.

كذلك القدّيس يوحنا الذهبي الفم (القرن الخامس) وبّخ الإمبراطورة أفدوكسيا مجاهرةً، فكلّفه ذلك نفيه وموته في المنفى.

لذا، إن توبيخ الحكّام والمسؤولين عندما يخطئون لهو واجبٌ إلهيّ وإنجيلي، وذلك مِن أجل خلاصهم وخلاص المواطنين.

التاريخ الكنسي مليء بأخبار الأساقفة الذين وقفوا في وجه الأباطرة الطغاة والحكّام الفاسدين، الذين أتت مواقفهم ترجمة لإيمانهم المسيحي بعيدًا عن كل رياء، لأنهم أبناء الله، والله لا يحابي الوجوه.

وهنا لا بد من توضيح ما معنى كلمة "​سياسة​". ففي أصلها اليوناني هي: الاهتمام بالمدينة وبشؤون المواطنين. وهذا واجب كل إنسان وبالأخص المسيحي. طبعًا ليس مِن أجل التسلّط، بل مِن أجل الحق والعدل كحدٍ أدنى. وهذا الواجب يعني الجميع دون أي استثناء، كنيسة ودولة وشعبًا. فالتقاعس ليس مِن شِيَم المسيحيين ولا هو إيمانهم.

وخلاصة، لفتني كتاب صدر مؤخّرًا عن دير القدّيس العظيم في الشهداء جاورجيوس اللابس الظفر- دير الحرف بعنوان: القدّيس جبرائيل المتباله مِن أجل المسيح´، فيه تعليم لهذا القديس بعنوان: "في محبّة الوطن وأرض الأجداد"، الذي مفاده:

الله! الحقيقة! هذا أسمى مِن أرض الأجداد. ولكن أرض الأجداد هي أيضًا مِن الله. والحقيقة تكمن أيضًا في المحبّة المخُلصة لشعبك." ويكمل: "كل شعوب العالم عائلة واحدة في عينيّ المسيح، فأسألك إذًا: هل مِن مكان بعد للحقد تجاه الأمم الأخرى؟ كلا، ليس هناك سوى المحبّة، ولكن إن كنت لا تحب شعبك الخاص محبّة بنوية، فكيف تحب شعبًا آخر؟ بالإضافة إلى ذلك يوجد بين الوالدين والأولاد نوع مميّز من الاعتماد المتبادل المفعم بالنعمة: مسؤوليّة إلهيّة". فلا يجوز إذًا الإهمال أو التخلّي وطبعًا الغدر والخيانة.

نهاية، ألم يضرب الفسادُ كل واحد منّا، فدمّر منازلنا وشتت عائلاتنا وبدد رعايانا وهجّر أولادنا؟ فكيف لي أن أقول: ليس لي شأن في وطني؟ وكيف لي أن أقول لن أشارك في إيقاف الشر الذي يعصف بوطني وشعبي وعائلتي وبي؟ وكيف لي أن أقول: لن أشارك في أن يتبوأ الصالحون مراكز مسؤولة في وطني، فكيف تتحقق صلاتنا في القدّاس الإلهيّ: "نقرب لك هذه العبادة الناطقة من أجل المسكونة... ومن أجل حكّامنا. أعطهم يا رب أن يكون عهدهم سلاميًّا، فنقضي نحن أيضًا، في ظل أمنهم حياةً هادئة مطمئنّة في عبادة حسنة ووقار".

إلى الرب نطلب.