قبل نحو شهر من الذكرى السنوية لحراك "17 تشرين" الذي يصفه البعض بـ"​الثورة​ اللبنانية"، ويحلو للبعض الآخر تحميله "مسؤولية" كلّ الأزمات التي "هبطت" على ​اللبنانيين​ منذ عام 2019، تبدو الصورة في البلاد بالنسبة لكثيرين، "شبيهة" بما سبق "لحظة" 17 تشرين، وربما مهّد وأسّس لها، من حيث الغموض غير البنّاء الذي يحيط بكل الاستحقاقات، معطوفًا على "الفوضى" التي يبشّر كثيرون بها، في الشارع وخارجه أيضًا.

فعلى المستوى السياسي، يبدو "الفراغ" تحصيلاً حاصلاً، في ظلّ المواقف "الملتبسة" لمختلف الأفرقاء، في وقت بات النقاش يتركّز على "تبعات" الفراغ، والسيناريوهات المحتملة لما بعده، فيما الحكومة التي قد "تقي" ولادتها البلاد من "شرّ" بعض الفتاوى والاجتهادات "المقلقة"،تنتظر عودة رئيسها المكلّف ​نجيب ميقاتي​ من الخارج، وتنفيذه "وعده" بالنوم في بعبدا، حتى تصاعد الدخان الأبيض، بالتناغم ما بينه وبين ​الرئيس ميشال عون​.

وفي انتظار هذا الموعد المؤجَّل، كانت البلاد على موعد مع "حفلة جنون" من نوع آخر في الأيام القليلة الماضية، كانت ​المصارف​ مسرحها، في ظلّ عمليات اقتحام بالجملة بقوة السلاح، نفذها مودعون يريدون استرجاع حقهم بأيّ طريقة ممكنة، وقد بلغت "ذروتها" يوم الجمعة، ما أسّس لـ"إضراب مصرفي" لثلاثة أيام قابلة للتجديد، وهو ما شبّهه كثيرون بـ"إضراب" سابق للمصارف، تزامنًا مع "حراك 17 تشرين" أيضًا وأيضًا.

إزاء كلّ ذلك، ثمّة من يسأل عمّا إذا كانت البلاد بالفعل أمام لحظة "فاصلة" قد تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، لا إلى مرحلة ما قبل الحرب والطائف كما يبشّر البعض، ولكن إلى زمن "حراك 17 تشرين"، ولو بصورة مختلفة؟ هل تكون "الفوضى" التي لاحت في أفق "انتفاضة ​المودعين​"، البوابة لـ"انتفاضة" جديدة، يعتقد الكثير من اللبنانيين أساسًا أنّها حاصلة حتمًا، عاجلاً أم آجلاً؟!

في المبدأ، يتحدّث كثيرون عن نقاط تشابه كثيرة بين "انتفاضة المودعين" و"حراك 17 تشرين"، من حيث الشكل بالدرجة الأولى، ولكن أيضًا في الكثير من التفاصيل، المرتبطة خصوصًا بالواقع السياسي والشعبي، فتمامًا كما "خُوّن" الحراك "التشريني" بعيد انطلاقته، بعدما كان "جامعًا" في ساعاته الأولى، ثمّة من بدأ يطرح علامات استفهام حول "انتفاضة المودعين"، حتى إنّ "نظرية المؤامرة" التي بات لها في كل عرس نصيب، حضرت على الخط من جديد.

صحيح أنّ "انتفاضة المودعين"، إن صحّت التسمية، أثارت انقسامًا منذ اللحظة الأولى، بين من دافع عن حقّ المودعين الغاضبين، خصوصًا أولئك الذين قادتهم دوافع إنسانية حرجة إلى الثورة ضد الظلم الذي لحق بهم، جراء "احتجاز" ودائعهم في المصارف بفعل الأزمة الاقتصادية، وبين من اعتبر أنّ استخدام القوة ليس مشروعًا، ولو جاء تحت عنوان محقّ، ولا سيما أنّ موظفي المصارف ليسوا من عالم آخر، وهم يعانون شأنهم شأن المودعين، والصغار منهم تحديدًا.

إلا أنّ الانقسام والشرخ اتّسع بعد تحوّل حوادث الاقتحام المحدودة إلى "ظاهرة" الجمعة، حيث وجد كثيرون الأمر "نتيجة طبيعية" لنجاح بعض المودعين في تحصيل حقوقهم بهذه الطريقة، ما جعل آخرين يحذون حذوهم، فيما رأى البعض الآخر أنّ الأمر "مدبَّر ومنظَّم"، وأنّ ما حصل الجمعة تحديدًا لم يكن "بريئًا ولا عفويًا"، بل إنّ هناك "مخطّطًا" لزرع "الفوضى"، ربطًا بالأجواء السياسية "الملبّدة" هذه الأيام، والمفتوحة على كلّ السيناريوهات والاحتمالات.

وإذا كانت هذه "الانتفاضة" ستأخذ "إجازة" حتى يوم الخميس المقبل بالحدّ الأدنى، باعتبار أنّ المصارف ستقفل بين الإثنين والأربعاء، فإنّ هناك من "يترقّب" المشهد ما بعد الخميس، خصوصًا أنّ هناك من يؤكد أنّ المصارف لن تفتح أبوابها سوى بعد حصولها على "الحماية الأمنية"، فيما يؤكد البعض أنّ شيئًا لن يوقف "انتفاضة المودعين" التي ستكبر أكثر، ما ينذر بـ"فوضى" لن تقف عند أيّ حدود، إذا ما قُدّر لها أن تستمرّ.

من هنا، ليس خافيًا على أحد أنّ هناك من يراهن على هذه "الفوضى" بالتحديد، ربما لتكرار "مشهدية" 17 تشرين، خصوصًا أنّ هناك قناعة لدى كثيرين بأنّ الشارع لا بدّ أن ينتفض من جديد، بل إنّ كلّ "مقوّمات" مثل هذه الانتفاضة متوافرة، في ظلّ الأزمات التي تزداد تفاقمًا، من تحليق سعر الدولار، الذي يكاد يصل إلى عتبة 40 ألف ليرة، إلى تحرير سعر البنزين، مرورًا بالأزمات المعيشية الأخرى، والظواهر التي لا تحدث سوى في لبنان.

ولعلّ الواقع السياسي "الهشّ" لا يسهّل الأمور، ف​الموازنة​ لم تقرّ كما كان مفترضًا، وجلستها "المرحَّلة" إلى 26 أيلول يمكن أن "تفجَّر" قبل موعدها، وفق ما يقول البعض، والإصلاحات الموعودة "في خبر كان"، فيما لا يجد البعض مانعًا في المزيد من "التهويل" على اللبنانيين بسيناريوهات تكاد تكون "خريطة الطريق" نحو المجهول، ويهرب البعض الآخر إلى "الحرب" ملاذًا أخيرًا للخروج من "المستنقع" وما يخبئه من تداعيات "ثقيلة" على الجميع.

وثمّة من يعتقد أنّ "​الفراغ الرئاسي​" قد يكون عنوان الحراك الجديد، ولو أنّ الأخير سيتجاوز الرئاسة بطبيعة الحال، خصوصًا أنّ نواب ما يُعرَف بـ"قوى التغيير" سبق أن لوّحوا باللجوء إلى الشارع لـ"فرض" الانتخابات قبل 10 أيام من الفراغ في حال عدم التجاوب مع مبادرتهم، فيما تلوّح بعض القوى السياسية بشارع "مضاد" أيضًا لمواجهة "الخصوم"، ومنهم "التيار الوطني الحر" الذي يقول البعض إنّ أنصاره يستعدّون للعودة إلى ​التظاهرات​ مع نهاية "العهد".

هكذا، يبدو في الظاهر أنّ كلّ الطرق، مهما تنوّعت وتشعّبت واختلفت، لا توصل سوى إلى "حراك تشريني" يفترض أن يكون تحصيلاً حاصلاً قبل الفراغ وغيره، في ظلّ وصول الأزمة إلى مستويات لم تخطر على بال أحد، وغياب أيّ أفق للحل. ولكن، على أرض الواقع، ثمّة من يستبعد ذلك، ليس بالنظر إلى تجارب الماضي فقط، ولكن لأن "طموحات" اللبنانيين باتت بمعظمها "متواضعة"، ولا تتجاوز "الصمود" بأقلّ الأضرار!.