يشيد عدد من الدوائر الديبلوماسية الغربية بأداء الجيش في ادارة الازمة الامنية التي يعيشها لبنان، ويعوّل عليه في الاشهر المقبلة لضمان الاستقرار عشية الاستحقاقات المرتقبة

يباشر الجيش اللبناني، بدءاً من نهاية الاسبوع، تدابير امنية مشددة، وحضوراً لافتاً في كثير من المناطق اللبنانية، في الفترة التي تسبق عيدي الميلاد ورأس السنة. ويعكس هذا الحضور، من طرابلس الى بيروت وصيدا والبقاع والجنوب وجبل لبنان، جانباً من الاستعدادات العسكرية والامنية في وجهها الجديد، في مرحلة لبنانية حساسة امنياً وسياسياً.

من الطبيعي ان تأخذ قيادة الجيش في الحسبان كثيراً من التهديدات التي تصلها، والتقارير الاستخبارية التي تحصل عليها بالجدية اللازمة عشية الاعياد. فكيف الحال في ظل الانتقال من التهديدات الى المباشرة في تنفيذ عمليات انتحارية تستهدف الجيش كما حصل في مجدليون والاولي، رغم محاولات سياسية مستمرة لنفي الطابع الانتحاري للعملية. وفي هذه المرحلة التي تقترب فيها الاستحقاقات المحلية، يضع الجيش امام عينيه هاجس تأمين الاستقرار، في بلد بدأت المحاولات الجدية لنقله من مجرد صندوق بريد الى ساحة مواجهة فعلية بين مشروعين. كانت طرابلس واحدة من هذه المحاولات، في 18 جولة من الاشتباكات التي انتهت بتكليف الجيش من دون غيره حفظ امن طرابلس، وبقاء الاجهزة الامنية خارج اطار العمل الامني المشترك.

ثمة اعتراف بأن الجيش تمكن، بكثير من الجهد، ولو بغير رضى بعض الاطراف، من كسر الحلقة المفرغة التي كان مطلوباً ادخاله فيها، ليكون في صراع مع ابناء المدينة في باب التبانة وجبل محسن على السواء، فأحبط الرغبة في ان تتحول طرابلس امتداداً لحرب سوريا. وبدلاً من ان ينسحب منها تحت وطأة الضغط السياسي والامني، زاد انتشاره فيها وعزز حركته، لكن هذا لا يعني ان ملف الشمال اُقفل، لا بل إن نقل المواجهة الى صيدا يعني ان ثمة من يحاول ارباك الجيش والهاءه في اكثر من نقطة، كما حصل سابقا في عرسال وفي بعض اللحظات في بيروت. وعمليتا صيدا ومجدليون (بعد السفارة الايرانية وبئر العبد وطرابلس) لا يمكن، في اي لحظة، التقليل من خطورتهما، برغم ما يريده بعض السياسيين، وهي تعبر تماماً عن مسار بدأ في عبرا، وقبلها في عرسال، ولما ينته بعد. وبقدر ما كان الجيش حاسماً في عبرا، فإنه، اليوم ايضاً، حاسم ومتشدد في التعاطي مع اي خلية ارهابية. والعمليات التي يقوم بها في صيدا وجوارها تعكس تماماً هذا المنحى.

لكن الجيش الذي يدرك حجم التهديدات يعرف جيداً انه كلما اقتربت الاستحقاقات، زادت المخاوف من السعي الحثيت الى ارباكه وتشتيت انتباهه من اجل رفع عوامل الخطر المحيطة بلبنان وفي ساحات متعددة التوجهات والانتماءات.

هناك خوف من السيارات المفخخة، وهناك ايضا خوف من تحول لبنان إلى ساحة جهاد والدخول في منظومة الانتحاريين. وتوجد، ايضاً، قنابل سياسية وامنية موقوتة، سواء في المخيمات او في تضخم قضية النازحين السوريين الى لبنان في شكل غير مسبوق، بعدما رفضت السلطة السياسية منذ اللحظات الاولى التجاوب مع طلب الجيش تولي هذه القضية واقامة مخيمات لهم. وهناك، ايضاً، مناطق حساسة تخفي النزعة الى تفجير الوضع، كما أن هناك قلقاً من الوضع السياسي، ومن المرحلة التي يقبل عليها لبنان.

لكن في مقابل كل ذلك، يتأكد يوماً بعد آخر، الحرص الدولي، على استقرار لبنان، وحرص مواز تعبر عنه الدول المعنية، في شكل تصاعدي، على دعم الجيش كي يصبح ضامنا للاستقرار. وهذه هي معادلة الاشهر المقبلة.

لم يكن كلام رئيس الوزراء الايطالي انريكو ليتا في زيارته الاخيرة الى لبنان حول دعم الجيش وعقد مؤتمر في روما يخصص له ليمر عابراً، وهو يأتي مباشرة بعد دعم اميركي غير مسبوق للجيش اعطي له في اكثر من مجال، كما يأتي بعد كلام السفير البريطاني طوم فليتشر عن ثقة حكومته المطلقة بالجيش، فيما تتكاثر الرسائل الديبلوماسية الغربية حول دعم المؤسسة العسكرية، من الادارة الاميركية وقيادتها العسكرية، كما المانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والعواصم العربية المعنية.

تنظر الديبلوماسية الغربية بعين الرضى الى اداء الجيش، وهي تلحظ انه، للمرة الاولى، لم يعد السؤال مطروحاً حول وحدته وتماسكه، فهذا موضوع بات من الماضي. السؤال اليوم: اي دم يجب ان يتوافر من اجل دعم الجيش وتزويده ما يحتاج إليه لتعزيز خبراته العسكرية واللوجستية والاستخبارية، وتعزيز قطعه ووحداته، فضلاً عن اهتمام ديبلوماسي خاص بطبيعة العمليات التي تحصل في لبنان، والاستفسار الدوري عما يتعرض له الجيش وخلفياته. ويتعدى الحرص الديبلوماسي الاطار الكلامي، الذي اعتاده اللبنانيون، ليتحول عملية متكاملة ترسم كل السيناريوات المحتملة لمصير لبنان والاستحقاق فيه. فالديبلوماسيون الغربيون يقاربون هذا الملف من كل زواياه ويستطلعون آفاقه بدءاً من احتمال اجراء الانتخابات في موعدها الى التمديد، وصولاً الى أسوأ الخيارات، اي الفراغ الرئاسي. وفي كل سيناريو، يبقى الجيش بالنسبة الى هذه الدوائر الديبلوماسية، ضامناً كي يجتاز البلد، أياً من هذه المحطات، بأقل الاضرار الممكنة، ونزع فتيل التفجير وتطويق ذيول اي تداعيات امنية تلجأ اليها الجهات الراغبة في ابقاء لبنان تحت الضغط الامني. وفي ظل حكومة مستقيلة، وعهد يشارف على نهايته، يصبح الجيش وحده ملاذاً آمناً وحاجة ضرورية للحركة الديبلوماسية التي تعول عليه كي يكون مسؤولاً عن الاستقرار، الذي ترعاه الدول الكبرى التي تعرف تماما انه بات، منذ اشهر عديدة، في دائرة الاستهداف.

ثمة اعتراف ديبلوماسي بأن الجيش نجح حتى الآن في لجم تداعيات الحرب في سوريا على لبنان، برغم ما اصابه منها مباشرة، وفي وقف مسار الانهيار الامني، كما نجح في الاعوام الماضية في تطبيق القرار 1701. وكذلك ثمة اعتراف بأنه تمكن من السير بين النقاط الساخنة وعبر بالبلد امنياً، في لحظات حرجة، وتمكن من جعل المؤسسة ضامنة للامن في لبنان، فلم تنفجر الحرب الكبرى فيه، بل بقيت حروبا صغيرة متفرقة، برغم القدرات الضئيلة للمؤسسة العسكرية، وحاجتها الى عديد اكبر لتغطية كل بؤر التوتر، ومعدات وآليات متطورة. وهنا اهمية عقد المؤتمرات الدولية لدعم الجيش، ودعم الخطة الخمسية التي وضعها، التي تسأل عنها البعثات الديبلوماسية دورياً.

لكن الاحاطة بالجيش، لا تلغي انه سيكون امام تحديات ومصاعب كثيرة، وسترتفع سقوف الضغط عليه، عسكرياً وامنياً، كما حصل في الاولي ومجدليون. ولا يجوز التقليل من مواصلة استهدافه في الداخل في مرحلة الاستحقاقات والفراغ الآتي. وهذا هو الاستهداف الاخطر.