اقل ما يقال عن الاعلان-الزلزال الذي صدر على لسان الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ باعلانه اعتراف ​الولايات المتحدة​ ب​القدس​ عاصمة ل​اسرائيل​، والتحضير لنقل ​السفارة الاميركية​ اليها، انه نسف عقوداً من الغطاء الدولي الشامل لوضع القدس وعدم البت بمصيرها قبل الوصول الى حل شامل للصراع الفلسطيني-الاسرائيلي ومن خلاله للمشكلة العربية-الاسرائيلية.

يمكن ان يقال الكثير عن هذه الخطوة وعن مدى تهوّر الرئيس الاميركي وتهديده للاستقرار في المنطقة، ولكن في الحقيقة هناك معطيات ومؤشرات ساهمت وساعدت واوصلت الى اتخاذ هذا القرار، وهذا امر لا يمكن عدم التحدث عنه. كان ترامب واضحاً بنيته اهداء القدس لاسرائيل، وهو بخطوته هذه، وكما يقول مصدر مطلع، اعطى اسرائيل دبلوماسياً ما عجزت عن الحصول عليه عسكرياً. لم يعتقد الكثيرون ان ترامب سيقدم على تحويل نواياه الى واقع، ولكن حصل ما حصل ووضع الرئيس الاميركي رهانه على اسرائيل.

في الحقيقة، لم ينجح العرب كلهم في جعل ​الادارة الاميركية​ او غيرها من الدول تعيد حساباتها اكثر من مرة قبل احداث تغيير جذري في السياسة الشرق اوسطية، او اتخاذ قرار على هذا المستوى، لا بل على العكس، اذ اكتفوا بركوب القطار الغربي وبدأوا مسيرة "نهش" بعضهم البعض كلما استطاعوا، وامعنوا في الحاق الاذى بأي دولة عربية تصاب بهزة سياسية او اقتصادية او امنية او عسكرية لتأكيد تفوقهم. هذا ما كان عليه الحال في ​لبنان​، وبعده ​الكويت​ و​العراق​ وتونس ومصر و​ليبيا​ و​الجزائر​ و​سوريا​ و​دول الخليج​. ففي نظرة سريعة على الواقع العربي، يظهر التشرذم والغوغائية في التعاطي مع الاحداث بدل رص الصفوف لمواجهة مصيبة ستطال الجميع دون استثناء، ف​الدول العربية​ باتت، اكثر من اي وقت مضى، اضعف من تشكيل عقبة او اي ثقل عسكري او حتى دبلوماسي في وجه اسرائيل، والحروب المندلعة في المنطقة اضافة الى الخلافات التي لا تعد ولا تحصى بين مكونات هذه الدول، خير دليل على ذلك.

اضافة الى ذلك، فإن اعلان المسؤولين الاسرائيليين وجود قنوات اتصال بينهم وبين دول عربية "معتدلة"، كفيل بتوضيح صورة كانت ضبابية في البدء، ولكنها بدأت تتضح لما يتم التخطيط له في المنطقة بحيث يكسر الاسرائيليون جدار المقاطعة العربية ويحدثون فجوة ينطلقون منها الى الترويج لتطبيع العلاقات مع العرب، انما وفق شروطهم ومصالحهم بطبيعة الحال، وبغطاء اميركي وغربي يرحّب بهذا الواقع الجديد.

ان اعلان ترامب هو بمثابة صفعة تلقاها العرب، لان من شأنه اعادة عقارب الساعة الى الوراء، والاهم انه فتح الباب امام استبدال التركيز على ​الارهاب​ والقضاء عليه بمفهومه الاخير، بافساح المجال امام منظمات ومجموعات للتصرف بحرية امنية وعسكرية لاستهداف مصالح اميركية وغربية تحت شعار "النصرة للقدس"، وهو امر من شأنه ان يخلق فوضى عارمة في دول ​الشرق الاوسط​ ككل، لان هذه المنظمات والجماعات نفسها ستتطور مع الوقت وستشكل عقبة اساسية امام استقرار الدول على الصعد كافة، وسيتم اعادة العمل بالحاجز القديم بين الشرق والغرب الذي اعتقد الجميع اننا انتهينا منه.

عملياً، لم يعد هناك من مجال لحديث عن سلام، فحتى لو فرض الامر الواقع بالقوة، لن تعرف القدس ولا اسرائيل ولا الدول المجاورة الاستقرار والطمأنينة، وسيبقى التهديد الامني سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع في الشرق، فيما ستزداد الكراهية والعنصرية في الغرب ضد الشرقيين بشكل عام والاسلاميين بشكل خاص. نعم، انها صورة قاتمة تلوح في الافق، ربما ارادها البعض لاعتقاده انه سيبقى ممسكاً بزمام الامور، لكن التاريخ القديم والحديث علّمنا ان السيطرة على الاوضاع ليس متاحاً في كل زمان ومكان، وان التفلّت ثمنه باهظ جداً.

وضع ترامب خطوته الاولى موضع التنفيذ وسط انقسام واضح مع ​اوروبا​ والعديد من الحلفاء، ويبقى ان نعرف ماذا ستكون عليه الاحوال بعد هذا الاعلان، وكيفية التعاطي معه على الصعد كافة، فيما المؤكد ان "الغيبوبة" العربية ستتواصل وبنجاح كبير...