فعلها رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ وأعلن استقالة حكومته "تجاوباً مع إرادة" ال​لبنان​يين الذين نزلوا إلى الساحات، وفي محاولةٍ لإحداث "صدمة" على طريق مواجهة ​الأزمة​، خصوصاً بعد وصوله إلى "حائط مسدود"، بحسب ما قال.

وبمُعزَلٍ عن احتفالات الشارع المُطالِب بإسقاط الحكومة، والذي لم يتردّد بعضه في "تمجيد" الحريري بعد خطوته، فإنّ الفرز السياسيّ بدا واضحاً إزاءها. حزبا "​القوات​" و"​الكتائب​" كانا أول المرحّبين، وصولاً لحدّ الحديث عن "انتصار"، ليلاقيهما "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" في منتصف الطريق، ولو بحذر.

في المقابل، كان واضحاً امتعاض "​التيار الوطني الحر​" من الاستقالة التي وصفها قياديّوه بـ"المفاجئة"، منتقدين الحريري لعدم تنسيقه مع ​رئيس الجمهورية​ قبل اتخاذه قراره. ولم يكن موقف "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" مختلفاً، وهما اللذان سبقا أن حذّرا من "مجهولٍ" يمكن أن تقود إليه استقالة الحكومة في هذا التوقيت.

باختصار، هو فرزٌ يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن فرز "8 و​14 آذار​" الذي سيطر على البلاد منذ العام 2005 وحتى ما قبل انطلاقة "العهد"، فهل يكون "شرارة" العودة الفعليّة إلى هذه المرحلة، مع ما يعنيه ذلك من إنهاءٍ للتسوية الرئاسيّة وكلّ مفاعيلها؟!.

"انقلابٌ" على العهد؟!

لا شكّ أنّ رئيس الحكومة أحدث "صدمةً" بقراره استقالة حكومته، تحت ضغط التحركات الاحتجاجية التي استمرّت أكثر من 13 يوماً، من دون أن تحدّ من زخمها ورقةٌ إصلاحيّةٌ اعتبرها الحريري إنجازاً، ولا وعودٌ بتغييرٍ وإصلاحٍ بقيت حبراً على ورق.

بيد أنّ "الصدمة" حلّت بالدرجة الأولى على الشريك الأساسي للحريري في "التسوية" التي أتى بموجبها رئيساً للحكومة، أي "التيار الوطني الحر"، صدمةٌ لم يتردّد نواب ووزراء "التيار" في التعبير عنها صراحةً، تعليقاً على الاستقالة، موجّهين للمرّة الأولى منذ سنواتٍ انتقاداتٍ صريحة ومباشرة للحريري شخصياً.

قال هؤلاء إنّ الاستقالة جاءت "مفاجئة" بالنسبة لهم، وإنّ الحريري لم ينسّقها مسبقاً مع رئيس الجمهورية، بل إنّه لم يفاوض الأخير على شيء على مدى الأيام العشرة الماضية بخلاف ما أشيع في الإعلام، نافين بذلك كلّ ما حُكي عن "خطوط حمراء" اصطدم بها الحريري، خصوصاً لجهة "التضحية" بوزيرٍ من هنا أو هناك.

بالنسبة إلى المقرّبين من "التيار"، فإنّ الحريري وقع في "خطيئة" لن يكون الخروج منها يسيراً عليه، بل إنّ هناك داخل "الوطني الحر" من يتّهمه بالانخراط في ما يسمّيه "الانقلاب على العهد"، وهو ما عزّزته الأنباء المتداولة عن انضمام "​تيار المستقبل​" إلى "​الثورة​"، فضلاً عن خروج مناصرين للحريري إلى الشوارع مساءً، مستنسخين شعار "كلن يعني كلن" للمطالبة باستقالاتٍ أخرى، إسوةً بالرجل.

كلّ السيناريوهات واردة...

وإذا كان الحريري يعتقد أنّ تسميته مجدّداً ل​رئاسة الحكومة​ أمرٌ "مضمون"، بالنظر إلى الواقع الذي تشهده البلاد، فإنّ ثمّة داخل "التيار" من يجاهر بأنّه لا يحبّذ مثل هذا الخيار، أياً كان شكل الحكومة التي سيتمّ الاتفاق عليها، وحتى لو كانت حكومة سياسيّة لا مستقلّة كما يُحكى، لأنّ "ما قبل الاستقالة ليس كما بعدها".

لعلّ مثل هذا القول كافٍ للقول إنّ "​التسوية الرئاسية​" باتت "مجمَّدة" بالحدّ الأدنى، وإنّ البلاد عادت فعلاً بالتالي إلى انقسامها العموديّ السابق. هكذا، عادت قوى ما كان يُعرَف بـ "14 آذار" لتلتفّ حول الحريري، وتتضامن معه، فيما تدرس قوى "8 آذار" خياراتها البديلة للمواجهة، وإن كانت البلاد بشهادة كلّ أهل الحكم، لا تحتمل العودة إلى مناوشات الماضي، في وقتٍ يبدو الانهيار أكثر من وشيك، إن لم يحصل أصلاً.

عموماً، يشير العارفون إلى أنّ كلّ السيناريوات تبقى واردة في التعامل مع الأزمة التي خلّفتها الاستقالة.إلا أنّ "التشاؤم" بأن تدفع إلى حلّ سريع يتقدّم على ما عداه، باعتبار أنّ الاستقالة حملت شكل الخطوة الفردية، من دون أن يسبقها توافق جدّي بين الأفرقاء على شكل وهيكليّة أيّ تشكيلة حكوميّة مقبلة، وهو أمرٌ لو حصل، كان يمكن أن يؤدّي إلى تفادي الجزء الأكبر من "الأزمة".

وإذا كان الشارع يطالب اليوم بحكومةٍ مستقلّة أو ما بات يُعرَف بحكومة "تكنوقراط"، ثمّة من يسأل، من أين يمكن الإتيان بمثل هذه الحكومة، علماً أنّ الكلّ في لبنان مسيَّس، سواء أعلن ذلك أم لم يفعل؟ ثمّ، كيف يمكن أن تحصل مثل هذه الحكومة على ثقة ​مجلس النواب​، الذي تتشكّل غالبيته من قوى سياسيّة ترفض الانكفاء تحت الضغط، بل يذهب البعض إلى الحديث صراحةً عن "أيادٍ خارجيّة" تحرّك المتظاهرين؟!.

وإذا كانت خيارات "حكومة الأمر الواقع" أو "حكومة الأكثرية" التي بدأ البعض بالتلويح بها، تتفوّق بطبيعة الحال من حيث الضرر على الاستقالة التي حذّر منها نفس هذا البعض، فإنّ الخشية الأكبر تبقى أن يترسّخ مفهوم "المؤامرة" في الشارع، عبر تكرار المشهد الهمجيّ الذي شهدته بعض الطرقات وساحات الاعتصام قبل يومين، بمُعزَلٍ عن هويّة من يستدرج المؤامرة عملياً بهذه الأفعال.

بين المجهول والمعلوم!

قد يكون "التيار الوطني الحر" مُحِقاً بلوم الحريري على "عدم التنسيق" معه قبل الاستقالة، باعتبار أنّ مثل هذا القرار كان يجب أن يأتي ضمن "سلّةٍ متكاملة" للحلّ، حتى لا تتعقّد الأزمة أكثر كما هو حاصل اليوم.

وقد يكون الحريري مُحِقاً باتخاذ هذا القرار الذي من شأنه "تنفيس" الشارع، خصوصاً بعدما عجزت كلّ "المسكّنات" في التخفيف من عزمه، وأنّ معظم شركائه في الحكم لم "يستوعبوا" على ما يبدو ما يحصل بعد.

وبين هذا وذاك، خرج من يقول إنّ الحريري أعاد الاعتبار لنفسه بهذه الخطوة، وردّ لـ "التيار" الصفعة التي تلقاها منه قبل ثماني سنوات حين أسقِطت حكومته بضربة الثلث المعطّل القاضية، وبالانقلاب عليه.

لكن، إذا صحّت هذه النظرية، فإنّ البلاد تكون بذلك تخطو بثباتٍ نحو "مجهولٍ" سبق أن جرّبته، فيما هي بأمسّ الحاجة إلى "معلومٍ" ينقذها فعلياً من الأزمات التي تتخبّط فيها، وما أكثرها!.