منذ انفجار الرابع من آب، تسعى قوى سياسيّة عدّة، تُصنَّف في خانة المعارضة بصورة أو بأخرى، إلى الدفع نحو انتخاباتٍ نيابيّة مُبكِرة، باعتبارها "مفتاح الحلّ" للأزمة السياسيّة المعقَّدة التي تتخبّط بها البلاد منذ أشهر، وذلك من خلال إعادة إنتاج الطبقة السياسيّة برمّتها.

من هنا، كانت استقالة عددٍ من النواب من البرلمان، بينهم مستقلّون وأعضاء كتلة "الكتائب"، والتي أراد أصحابها أن تكون "حافزًا" لآخرين، بحيث تصبح استقالة جماعيّة تطيح بالبرلمان برمّته، في "سيناريو" تصدّى له يومها رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​، واصفًا إياه بـ"المؤامرة".

استطاع بري "احتواء" الموقف عبر إقناع رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ ورئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ بعدم السير بالمخطّط، الذي كان رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ يمهّد لإعلانه، مبدِّدًا بذلك كلّ حديث عن "انتخابات مبكرة" وما يمتّ لها بصلة.

اليوم، يعود الحديث عن مثل هذه الانتخابات إلى الواجهة، في ضوء المؤتمر الصحافي الأخير لرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، الذي كشف فيه عن طريقةٍ يمكن بموجبها "سحب التكليف" من رئيس ​الحكومة​ المكلَّف سعد الحريري، وتتمثّل بحلّ البرلمان.

ومع أنّ باسيل تحدّث عن "سلبيّات" مثل هذا الخيار، موحيًا بأنّه لا يدفع باتّجاهه، ثمّة من سأل عمّا إذا كان "التيّار" يمهّد بشكلٍ أو بآخر، للالتحاق بقافلة المطالبين بانتخابات مبكرة، ولو من زاوية مختلفة، وعلى طريقة "الغاية تبرّر الوسيلة"؟!.

باسيل لا يريد انتخابات

يتقاطع مؤيّدو "التيار الوطني الحر" وخصومه على التأكيد أنّ باسيل "لم يقصد" بكلامه في مؤتمره الصحافي الأخير، "تعبئة" الرأي العام للمطالبة بانتخابات نيابية مبكرة، أو الإعداد لمثل هذا "السيناريو" بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصًا في ظلّ اعتقادٍ راسخ لدى المعسكرين بأنّ هذه الانتخابات لا تشكّل "مصلحة" لباسيل، بل من شأنها "تعقيد" الأمور أكثر وأكثر.

بالنسبة إلى خصوم الرجل، فإنّ الكثير من المُعطيات تدلّ على "عدم حماسة" باسيل، وفريق "العهد" بشكل عام، إلى فكرة أيّ انتخاباتٍ في الوقت الحاضر، لعلّ أبرزها ما يشبه "الفيتو" الذي يشهره هذا الفريق على الانتخابات الفرعيّة التي يوجب ​الدستور​ إجراءها لملء الشغور الناجم عن استقالات النواب بعيد انفجار الرابع من آب، معطوفةً على وفاة النائبين ​ميشال المر​ و​جان عبيد​، علمًا أنّ مرسوم إجرائها "عالِق" في ​قصر بعبدا​، وفق هؤلاء.

ويعتقد خصوم باسيل أنّ مقاربة الأخير للانتخابات الفرعية، رغم كونها استحقاقًا دستوريًا واجبًا على ​السلطة​ السياسية، تكفي لتأكيد "توجّسه" من أيّ انتخابات في الوقت الحاليّ، في ظلّ مخاوف من أن تؤدّي إلى "تقليص" حجم الكتلة النيابية المحسوبة على "التيار"، خصوصًا إذا ما صدقت الاستطلاعات والتقديرات التي تتنبّأ بـ"تراجع في الشعبية"، في ضوء المتغيّرات والحملات السياسيّة التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة.

ويتّفق مؤيدو باسيل مع خصومه على أنّ فكرة الانتخابات ليست "محبَّذة" بالنسبة إليه، ولو أنّهم يتسلّحون بمنطقٍ مختلف، بعيدًا عن "التكهّنات" غير الدقيقة برأيهم حول تراجع الشعبيّة، وهو منطق عبّر عنه باسيل نفسه في مؤتمره الصحافي، حين قال إنّ الأولوية للإصلاحات لا لانتخابات لن تغيّر المعادلة ولن تعالج المشاكل، بل على العكس، ستعقّد الأمور الملحّة التي ينبغي علاجها، والأهمّ من ذلك، ستتسبّب بتوترات كبيرة على الأرض.

"لكلّ حادث حديث"

انطلاقًا ممّا سبق، يبدو مسلَّمًا به أنّ حديث باسيل عن الانتخابات المبكرة، جاء في سياق "البازار الحكوميّ"، بين فريقي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف، ولا يُعَدّ بحدّ ذاته دفعًا نحو تطبيق "السيناريو" الذي تحدّث عنه، عبر الالتحاق بالنواب المستقيلين، بما يتيح الإطاحة بالبرلمان الحاليّ عن بكرة أبيه، وبالتكليف الممنوح للحريري في الطريق.

بمعنى آخر، فإنّ باسيل أراد "توظيف" هذا السيناريو الذي يبقى "افتراضيًا" حتى إثبات العكس، في سياق "معركته المستمرّة" مع رئيس الحكومة المكلَّف، بحيث "يلوّح" بخيار الاستقالة، لا ليطبّقه فعليًا، ولكن ليقول للحريري إنّ هناك طريقة لسحب التكليف منه، بعكس ما يروّج، إذا ما أصرّ على مواصلة "احتجاز ورقة التكليف" في جيبه، ورفض "الانفتاح" على رئيس الجمهورية، أو "الاعتذار" عن أداء المهمّة لإتاحة المجال لغيره.

يقول "العونيّون" في هذا الإطار، إن رسالة باسيل، وإن فُهِمَت سلبًا، يمكن أن تكون لها مفاعيل إيجابية، في حال تلقّفها الحريري كما يجب، بحيث يعلن خروجه من "دوامة" الاستقواء بالصلاحيّات، ليدرك أهمّية "الأخذ والردّ" الإيجابيّ مع رئيس الجمهورية، طالما أنّه تبيّن أنّ هناك إمكانيّة لسحب ورقة التكليف، وعدم بقائه رئيسًا مكلَّفًا إلى ما شاء الله، ومن دون الاعتماد على اجتهادات غير دستورية أو "فتاوى غبّ الطلب"، كما يُقال.

لكن، ماذا لو لم يعدّل الحريري موقفه، وبقي "التباعد" بينه وبين باسيل على حاله، وهو ما أوحت به المواقف المتبادَلة بين الجانبين في الأيام القليلة الماضية؟ هل يمكن أن يتحوّل سيناريو الانتخابات المبكرة الافتراضي أمرًا واقعًا؟ يعتبر "العونيّون" أنّ هذا ​النقاش​ يبقى سابقًا لأوانه، فلكلّ حادث حديث، وفي النهاية، لا بدّ من وضع الأمور في "الميزان"، فإذا تغلّبت إيجابيّات "سحب التكليف" على سلبيّات "الانتخابات"، يصبح الشعار "نحن لها".

لا انتخابات ولا من يحزنون

رغم أنّ باسيل أعاد النقاش حول الانتخابات بمؤتمره الصحافي الأخير، فإنّ الجوّ العام في البلاد لا يَشي بأيّ انتخابات قريبة أو بعيدة في الأفق، لا مبكرة ولا متأخّرة، في إشارة إلى ​الانتخابات الفرعية​ التي كان ينبغي أن تجرى منذ العام الماضي.

ما يجري على خط هذه الانتخابات خير دليل، إذ تمّ تأجيلها مرّة بسبب تدابير الإغلاق العام الناتج عن ​كورونا​، ثمّ تمّ "تجاهلها" بكلّ بساطة، قبل أن يستجدّ نقاش "تقنيّ" حول وجوب تعديل ​قانون الانتخابات​، في محاولةٍ للقفز فوقها بكلّ بساطة.

أكثر من ذلك، ثمّة من يخشى من "مَكيدة" تُدبَّر منذ الآن لتأجيل ​الانتخابات العامة​ المفترضة العام المقبل، علمًا أنّ هناك من يتحدّث عن لائحة "أسباب موجبة" ستبرّر التمديد للبرلمان، قد تكون أكثر "إقناعًا" من تلك التي اعتُمِدت سابقًا.

باختصار، لا انتخابات ولا من يحزنون، وهو ما يُعتقَد أنّ الطبقة السياسية متّفقة عليه، بمختلف فروعها، أيًا كانت التعقيدات، ولو بقي "التخبّط" الحكوميّ على حاله، وبقي المكلَّف مكلَّفًا إلى ما شاء الله...