"فعلاً إللي إستحوا ماتـوا"

يستعرض منهج العلوم السياسية حق الحاكم أي صاحب السلطة القائمة، التي تُمسِكْ بيدها زمام الأمور بطهارة، وتأخذ على عاتقها أن تقوم بكل الواجبات المنوطة بها دستوريًا، وعلى ما تنص عليه القوانين والشرائع الدولية. وبديهي وفقًا لعلم ال​سياسة​ أنّ طبيعة أي حاكم ضمن نظامه الصادق هو حماية الأمن الوطني والأرض التي يحكمها والمحافظة على الناس وأعراضهم وكل متطلباتهم وأموالهم ونشر العدل بالتساوي بين كل الرعايا.

يشترط علم السياسة الأمانة لدى الحاكم أيّ إحاطة نفسه بسلوكيّة من الأخلاق الفاضلة التي يستلزمها الإضطلاع بمهمة الحكم الرشيد، ومن الأمانة الحرص التام والشديد على شؤون الناس المادية والمعنوية والتربوية والصحية، والحرص على الدفاع عنها والحزم المطلق، لأنّ الحاكم الحازم لا يخون الحقوق ولا يُهمل الواجبات. وعلى الحاكم التقيّْ تأديب الفاسدين العابثين بالأمن وبحقوق المواطنين.

الدستور والقوانين المرعية الإجراء تشترط على الحاكم ألاّ يحتجب دون حاجات الناس، وعليه أن يسُّد المحسوبية، الرشوة، السرقة وباب الهدر، ويوفِّرْ لشعبه كل أركان ومستلزمات الإطمئنان وهو العدل فيهم والوقوف إلى إحتياجاتهم.

قرأتُ كتابًا لأحد الفلاسفة يتضمن فصلاً مهمًا أختصره على الشكل التالي، في كل حاكم يرغب في سلطة ما أن يعهد بالحكومة أو لمنصب ما أو أي وظيفة عامة يطلبها بنفسه أو يتطّلع إليها، لا يجوز أنْ يُعهد إليه قبل مثوله امام هيئة عامة تستجوبه عن مضمون منظومته السياسية المنوي سلوكها، بإعتبار أنّ طموحه غير عفيف لإعتبارات عديدة، ربما تكون للإنتفاع المادي أو الإستمتاع بلذّة السلطة وكلا الأمرين مناقض لمصلحة الوطن، وينهي قائلاً "إنّ السلطة تقابلها المسؤولية وهذا أصل من أصول القانون الدولي، فالحاكم يستمّد سلطته وولايته من الشعب وهو أوسع الحقوق الإنتخابية".

الحاكم الرزين مسؤول مسؤولية دستورية كاملة لا أمام ناخبيه ولكن أمام كل فرد ومواطن. إنّ الحاكم وفق العلوم السياسية مفتون برعيته للمسؤولية التي يتحملها تجاه مواطنيه وللواجبات التي عليه أداؤها، وكذلك الشعب مفتون بالحاكم لأنّ الحاكم عليه حقوق تلزمه بأدائها، إذن كلُ منهما مفتون بصاحبه، والإخلال بشيء ما من أي الجانبين يوجب قيام الجانب الاخر بعمل سلبي تجاه الاخر.

في علم السياسة، الحكومات هي المسؤولة في نهاية المطاف عن التقدم والإزدهار على طريق تحقيق الأهداف العالمية لممارسة العمل السياسي وفق نظم الديمقراطية، فالحكومات حصريًا هي التي تتحمّل مسؤولية الوفاء بالإلتزامات في مجال ممارسة العمل السياسي إستنادًا للقوانين المرعية الإجراء. إنّ من أبرز الواجبات التي يجب أن يقوم بها الحاكم ومن يقوم مقامه من وزراء ونوّاب هو ما يُعرف بـ"واجبات الراعي" أو "حقوق الرعية"، فإنّ من أهم تلك الحقوق أختصرها على الشكل التالي:

أولاً، حماية الوطن والذود عنه بواسطة قواته الذاتية، كما بذل كل السُبُل لحماية الشعب والدفاع عنه.

ثانيًا، حفظ حرية الرأي والمعتقد والإلتزام الصادق المتنوّر وردع البدع ومحاربتها.

ثالثًا، المحافظة على هوية لبنان وإنضمامه إلى جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة وإلتزامه الحياد.

رابعًا، إحترام القضاء وعدم التدخل في شؤونه.

خامسًا، إقامة العدل بالتساوي بين المواطنين.

إنّ جميع النصوص الواردة في المواثيق والمعاهدات الدولية تتمتّع بقيمة الأحكام الدستورية وهذا ما يجب التأكيد عليه قانونيًا، والذي يوجب الإقرار بأنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والميثاق العربي لحقوق الإنسان، هي صكوك دولية تتمتع أحكامها بقيمة دستورية موازية لمختلف أحكام الدستور اللبناني. وهنا ألفت نظر حكّام لبنان لنص المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنيّة أنّه يتوجب "على المحاكم أن تتقيّد بمبدأ تسلسل القواعد". شتّان ما بين القانون والعلوم السياسية ومبادئها وما بين أداء هؤلاء الحُكام الحاليين.

تناقشت وأحد القضاة الأوروبيين عن واقع الأداء العملاني لحكامنا، وبعد الإستماع إليَّ بما إستفضت من سرد لمخالفاتهم، أورد العديد من الملاحظات أختصرها لضيق الوقت على الشكل التالي: "بالنسبة لمخالفة القواعد الدستورية فإنّ الجزاء يكون بصورتين:

الأولى، جزاء غير منظم يتمثل في الضغط الشعبي لحماية القواعد الدستورية، ذلك أنّ السلطة تخالف الدستور، لا تعترف بتلك المخالفة، وإنما تضع تفسيرات لتصرفها تحاول بها الظهور أمام الرأي العام بمظهر عدم إرتكاب ما يخالف الدستور.

الثانية، تتمثل في الجزاء المنظم لحماية القاعدة الدستورية بنص الدستور على الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بما يحقق التوازن بينهما، إذ تنص الدساتير التي تتبنى النظام البرلماني على وسائل متساوية للضغط والرقابة المتبادلة لكل سلطة في مواجهة السلطة الأخرى، بحيث لا تسيطر إحداهما على الأخرى وتخل بهذا التوازن، ومن هم الوسائل التي تملكها السلطة التشريعية هي الإستجواب وسحب الثقة.

هل يجوز ما يحصل؟ هل يجوز السكوت عن تلك المخالفات الحاصلة؟ هل يجوز اللجوء إلى طرد الأوادم والكفوئين من الدولة وتعزيز دور الفاسدين؟ اسئلة كثيرة أخجل من تعدادها. وفي نهاية مقالتي أود أنْ أستشهد بما فعلته أيدي الشرّ مع أشرف الموظّفات في وزارة الإعلام حيث تبلّغت قرار فصلها عبر حاجب في الوزارة، هذا مع العلم أنّ القرار الصادر بحق الموظّفة غير مُعلَّل، والأنكى تمّ ترقيم القرار بتاريخ مزّيف بالإستناد إلى قرار حكومي أصدره رئيس الحكومة في حينه بإلغاء وزارة الإعلام حيث إضطروا إلى إعتماد تغيير التاريخ .

صدق "مارتن لوتر كينغ" حين قال "إنّ الظلم أينما كان يهدد العدل في كل مكان"، من المعروف أنّ دعائم العدل تنهض على إحترام حقوق الإنسان، ومن المؤسف أننا إبتُلينا بحكام خبثاء عاثوا الفساد في كل أرجاء الدولة وفعلا صدق المثل القائل "إللي إستحوا ماتوا" نأمل الخلاص من هذا الجهنّم .