قد يكون من المفارقات اللافتة في جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية الأولى، توافق مختلف ​الكتل النيابية​ على أن الأمور لم تكن جدّية، الأمر الذي عبر عنه رئيس ​المجلس النيابي​ نبيه بري في ختامها، من خلال التأكيد على أنه عندما يتأمن التوافق يحدد موعد الجلسة الثانية، أي أن الأمور مرتبطة بالقدرة على الوصول إلى تسوية بين الأفرقاء المتخاصمين، من المفترض أن تنطلق حكماً من الخارج.

إنطلاقاً من ذلك، ينبغي قراءة التوازنات التي أفرزتها هذه الجلسة، فقوى المعارضة لم تنجح في التوافق على إسم، الأمر الذي منع مرشح بعضها رئيس حركة "الإستقلال" النائب ​ميشال معوض​ من تأمين أكثر من 36 صوتاً، في حين أنّ كتلة أساسية من المعارضة أبدت رفضها لهذا الخيار، أي كتلة "النواب التغييريين" التي قرّرت التصويت لصالح سليم أده، في حين أن تصويت "اللقاء الديمقراطي" لصالح معوض يأتي من باب التسليف، نظراً إلى أنه عندما تكون الأمور جدية لا تستطيع أن تتجاوز التوافق مع رئيس المجلس النيابي.

في الجانب المقابل، إختارت قوى الثامن من آذار و"التيار الوطني الحر" عدم الذهاب إلى أي خيار يظهرها منقسمة، أيّ ​الورقة البيضاء​، خصوصاً أن التوافق بين أركانها لم يتم حتى الآن على أي مرشح، بالرغم من أن الجميع يعلم أن الإسم الأكثر تداولاً هو رئيس تيار "المردة" النائب السابق ​سليمان فرنجية​، لكن فرص وصوله إلى رئاسة الجمهورية لا تزال تحتاج إلى المزيد من العمل، سواء كان ذلك داخل الفريق الواحد أو مع القوى الأخرى، وبالتالي هي قرّرت عدم الذهاب إلى "إحراق" الإسم.

هذا الواقع، يقود إلى الحديث عن أن الأسماء التي تملك الحظوظ الحقيقية لم تطرح، سواء كان الأمر متعلقا بفرنجية أو بالإسم الذي من الممكن أن تتفق عليه قوى المعارضة، من دون تجاهل إسم قائد الجيش ​العماد جوزاف عون​، الذي من المتوقع أن يحضر بقوّة بعد دخول مرحلة الشغور الرئاسي، نظراً إلى إن إنتخابه قبل ذلك يتطلب تعديلاً دستورياً صعباً، لا سيما أن الأمر يتطلب وجود حكومة كاملة الصلاحيات، مع العلم أنه قد يكون الإسم الأكثر قدرة على تأمين التوافق حوله.

بالإضافة إلى ذلك، لا ينبغي تجاهل غياب الأسماء المسيحية الرئيسية، أي كل من رئيس "التيار الوطني الحر" النائب ​جبران باسيل​ ورئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، بالرغم من أن كل منهما يعتبر نفسه مرشحاً طبيعياً، الأمر الذي لا يمكن أن يوضع في إطار إقتناعهما بأن فرصهما باتت معدومة، في مقابل بروز كتلة من النواب السنة، يبلغ عدد أعضائها 10، قررت التصويت "لبنان"، ما قد يكون مقدمة نحو فرض التعامل معهم ككتلة فعلية، في ظل المشاورات القائمة لجمعهم.

وبالتالي، يمكن الحديث عن أن قوى الثامن من آذار و"التيار الوطني الحر" لا تزال تحافظ على جميع أوراقها، أي ترشيح فرنجيّة أو الذهاب إلى إسم آخر تسعى لتأمين التوافق حوله، في حين أن القوى المعارضة قدّمت إسماً لم تستطع أن تؤمّن توافقها حوله، الأمر الذي سيفرض عليها إستكمال المشاورات، لكن مع الأخذ بعين الإعتبار أنها لا يمكن أن تذهب إلى مرشح إستفزازي، بغض النظر عن إعتقاد البعض أنها قادرة على ذلك، نظراً إلى أنها في هذه الحالة قد تخسر من الأصوات.

في المحصّلة، إنتخاب الرئيس يتطلب أكثريتين: الأولى هي 86 نائباً، أما الثانية فهي 65 نائباً، ومن يستطيع أن يؤمن الثانية لا يمكن أن يؤمن الأولى من دون التوافق مع مختلف الأفرقاء، نظراً إلى وجود أكثر من جهة قادرة على الذهاب إلى تعطيل النصاب، ما يعني أن البحث عن التوافق سيكون هو سيّد الموقف في المرحلة المقبلة، الأمر الذي من المرجّح أن يتطلّب تدخلاً خارجياً ودخولاً في مرحلة الشغور الرئاسي.