مع كل مشهد إقليمي، يخضع لبنان لبازار المفاوضات الاقليمية والدولية. هكذا تهبّ عليه رياح التسوية الباردة، لتعود الرياح الساخنة عبر التفجيرات والاغتيالات وتعثر التأليف

ترافق الانفراج الجزئي في ملف تشكيل الحكومة مع تسارع التفجيرات والاغتيالات والخضّات الامنية في لبنان، ما أكد الانطباع السائد لدى بعض الجهات اللبنانية بأن التسوية الاقليمية لم تنضج الى الحد الذي يسمح بالقول إن لبنان دخل عصر التهدئة الشاملة. فالتسوية الظرفية، وإن توافرت كل عناصرها، ستكون مشروطة ومرتبطة بمعايير وحيثيات محددة، تنتهي بانتهاء مفعول التسوية، أو تستمر باستمرارها.

لكن الانشغال اللبناني بترتيب الوضع الداخلي لم يحجب، للحظة، متابعة مؤتمر «جنيف 2» وخلفيات المشاورات الاقليمية التي تنعكس مباشرة على لبنان. فمع بدء تنفيذ الاتفاق الاميركي (الغربي) الايراني مطلع الاسبوع، دخلت منطقة الشرق الاوسط مرحلة جديدة، لستة أشهر، تنتهي في العشرين من تموز المقبل. وتعيش دول المنطقة، ولبنان في مقدمها، بعد سريان هذا الاتفاق، على إيقاع الرياح الباردة والساخنة التي ستهب عليها، ربطاً بما يمكن أن ينتج من هذا الاتفاق، ولا سيما بين القطبين المعنيين مباشرة، أي إيران والسعودية، في تقاطع علاقتهما مع الولايات المتحدة.

وبحسب مطلعين لبنانيين، فقد شهدت المرحلة التي سبقت وضع الاتفاق على سكة التنفيذ مداً وجزراً بين الولايات المتحدة والسعودية التي وإن اتفقت مع واشنطن على رؤية مشتركة تجاه النظامين الإيراني والسوري، إلا أنها تختلف معها في طريقة الوصول الى الهدف المشترك.

فقد أظهرت الرياض أكثر من مرة انزعاجها، بحدّة، من الاتفاق الاميركي ـــ الايراني، الى حد أنها رفضت في المرة الاولى المقعد غير الدائم في مجلس الامن، ورفضت في إحدى المواجهات الديبلوماسية استقبال موفد أميركي. وتطور موقفها لجهة محاولتها فتح خطوط اتصال مع روسيا، وتوسيع أطر التعاون العسكري مع فرنسا، الى أن انتهى موقفها الحاسم ضد صعود الدور الايراني برعاية أميركية، برفض حاد لمشاركة إيران في «جنيف 2»، وكذلك فعلت واشنطن، ما دفع الامم المتحدة الى سحب الدعوة الايرانية.

وتقف السعودية، بحزم، ضد تصاعد القوة الايرانية في المنطقة، وهي نظرت الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات والافراج عن أرصدة مجمدة، على أن من شأنها أن تساعد النظام الايراني على تعزيز دوره في الداخل الايراني، وأن تقوي نشاطه في الساحات العربية المشتركة من فلسطين الى العراق وسوريا ولبنان، وعلى استعادة نفوذه وعلاقاته الدولية، مع الإشارة الى أن عدداً من الدول الاوروبية لم يكن يشاطر واشنطن موقفها السابق بفرض العقوبات، وقد سارع الاتحاد الاوروبي الى إعلان فكها.

تخشى السعودية، إذاً، مع إعطاء واشنطن لإيران دوراً أكبر في تهدئة الساحات المشتعلة، أن تركز دورها كقوة إقليمية تتوازن معها في إدارة شؤون المنطقة، فيما هي لم تعتد بعد فكرة أن إيران لم تعد عدوة لواشنطن وأوروبا، ولو لم تصبح بعد حليفتهما كما هي حال السعودية. من هنا تتشدد الرياض في التعبير عن موقفها تجاه الادارة الاميركية، كما تجاه المتغيرات التي تتلاحق في المنطقة، وهي تحاول في المهلة المعطاة للاتفاق مع إيران أن تعزز أوراقها. هكذا فعلت في مصر حيث أطاحت نظام الإخوان المسلمين، وبدأت تعيد جدولة حضورها سورياً ولبنانياً، مع إبقائها في الوقت ذاته هامش المفاوضات مفتوحاً في انتظار ترجمة التعهدات الايرانية أفعالاً.

وهذه التعهدات هي تماماً ما تنتظره واشنطن من إيران. فالاتفاق الكيميائي السوري والاتفاق النووي الايراني لا يزالان في مراحلهما الأولى للتنفيذ. وأمام إيران جدول أعمال حافل تنتظر واشنطن منها تطبيقه قبل العشرين من تموز المقبل. بالنسبة الى واشنطن، فهي قد تمكنت من سحب إيران الى المكان الذي يفرض عليها ترتيبات مبرمجة بحسب الروزنامة الدولية، وليس بحسب البرنامج الإيراني. وواشنطن التي تعطي لإيران مهلة أشهر ستة، معززة بالإفراج عن مستحقات مالية محدودة، تمنحها فرصة الإيفاء بمستحقاتها السياسية: في البحرين ودول الخليج، وهو ما يحصل بطريقة ما، وفي العراق وسوريا ولبنان.

تريد إيران بكل أجهزتها وتناقضاتها، بطبيعة الحال، فك ضيقتها الاقتصادية، لكن إيران الرئيس حسن روحاني تحتاج أيضاً الى التوازن بين ضغط الغرب وضغط الداخل. فالمال الايراني المجمد لم يقدم بحصّة محسوبة، الا مقابل جدول أعمال زاخم، يفرض استقراراً في المنطقة. ولعل هنا أحد أسباب سحب الدعوة الى حضور مؤتمر «جنيف 2». فتوجيه الدعوة عمل مدروس وكذلك سحبها، وإيران التي سعت بزيارة وزير خارجيتها محمد جواد ظريف برفقة نظيره السوري وليد المعلم الى موسكو، عشية انعقاد المؤتمر الى تنسيق المواقف، جوبهت بسحب الدعوة منها، في انتظار ما ستؤول اليه المفاوضات السرية، لأن ما يُنتظر منها، ويتعلق بمصير النظام السوري ومستقبل الرئيس بشار الاسد، والموافقة على «جنيف 1»، ومصير حزب الله ومشاركته في حرب سوريا، هو جزء من عملية متكاملة، مع مهلة محددة بالزمان، أي ستة أشهر، مع كل ما يترافق معها من استحقاقات إيرانية وسورية.

وسط تعقيدات إقليمية، مع دخول السعودية وإيران على خط الاشتباك المباشر والتسوية غير المباشرة، هناك ساحات تنتظر الضوء الاخضر للاشتعال أو التهدئة، من العراق الى سوريا ولبنان. من هنا تتقدم التسوية الحكومية وتتراجع على إيقاع ما يجري إقليمياً، إذ لم يكن أمراً يسيراً أن تتهاوى الدفاعات التي وضعها حزب الله منذ ثلاثة أعوام فجأة على مذبح التهدئة الداخلية، فيتم التراجع عن الثلث المعطل وعن الحقائب الأساسية ومنها الخارجية والداخلية، والقبول بالمداورة. كذلك لم يكن تفصيلاً أن تتراجع السعودية عن الحرم الذي أنزلته في حق حزب الله ورفض الجلوس معه على طاولة واحدة. إلا أن الطرفين لا يزالان «على سلاحهما»، ولكل منهما الامكانات الوافرة لتطيير التأليف في لحظة واحدة، والدخول في فوضى محلية عارمة، إذا لم تنضج ظروف المفاوضات الاقليمية في شكل تام. والخشية أن يكون لأي منهما مصلحة اليوم في تطويل أمد المفاوضات حول الحقائب والمداورة، كما قد تكون الخشية من أن يكون ما يجري مجرد استدراج عروض قبل الذهاب في مغامرة غير محسوبة، سواء كانت عبر حكومة أمر واقع أو غيرها من المحاولات اللبنانية في الوقت الضائع.